قراءة ثامر جواد الخفاجي

قال تعالى في كتابه العزيز :

البقرة “ – الآية : 269: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) . 

من صفات الوجود الدالة على التمتع بحقيقة الإنسان هي الطبع الميال للكشف عن أسرار الكون ، واكتشاف كل ما من شأنه أن يرفق الدلالة على معرفتها سواء في ظواهرها المتجلية ، أو المضمرة في نتاجها الكوني التي تحيط به قضايا وجودية محيرة. إنَّ مجمل هذا البحث وهذه التساؤلات هي الطريق الطبيعي للوصول إلى الاستكناه وتقديم أنماذج من التساؤلات ، ومن ثم يبدأ البحث عن الوسيلة التي توصل ما استوعبه عقله وفسرته غريزته التواقة بشدة للبحث في مكنون الأشياء ثم إيجاد الوسيلة التي تنقل معرفته للآخرين فتكون هي ضالته لتفسير وإيصال ما يريد تفسيره وايصاله إلى المتلقي فيحاول أن يلبس لغته ثوب الحكمة التي لابد منها لإقناع الآخر بما عرفه بدلالة اللغة التي يجيدها. 

فالإنسان هو باب من أبواب التمرد ، بل هو التمرد عينه على ما يكتنف واقعه من ظواهر بطبيعة تركيبته السايكولوجية ، والفكرية الباحثة عن التغيير والتجديد لذلك فالإنسان هو هدف سعى إليه المؤلف ليحيطه بكل هذا الحب والتقديس ليجد فيه ضالته من الحكمة .

قد تتقد في الذهن تساؤلات وأسئلة كثيرة يثيرها العنوان الذي اختاره بروية المؤلف محمد شنيشل فرع الربيعي .

مالمقصود بالحكمة ، ومن هو الحكيم ، وهل أن الحقبة السومرية كانت موشومة بالحكمة ليوشح بها الشاعر عبد الجبار الفياض،  وهل أن الحقبة السومرية زاخرة بالشعر والشعراء حتى ننسب أو ينتسب إليها مبدعونا من الشعراء ؟ 

ثمَّ ألم يكن للحضارات الإنسانية الأخرى نصيبا فيها قد يتجاوز مفهومها الحقبة السومرية من حبث الإيضاح والتجلي ، وتحديدا ما آلت اليه الحضارة الإسلامية ، ورؤيتها لمعنى الحكمة ، وما المقصود منها(الحكمة) بعد أن وردت هذه الكلمة في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، من حيث المعرفة وإثبات الوجود من وجهتي (أنطولوجية ، وأبستمولوجية) 

ونتساءل : هل اللغة قادرة على التغيير ، والتجديد لتحاكي هذا التمرد في المعرفة الإنسانية التواقة دائما للتغيير والحداثة كما يقول عنها (مارتن هيدجر) الفيلسوف الألماني :

إنها فلسفة تبحث في الوجود الإنساني أو في الذات الإنسانية، إنطلاقاً من الكلمة ، والقول ، والشعر ، والتأويل . 

من هذه التساؤلات قد يتبادر إلى ذهن القاريء أكثر من مستشكل لعنوان كتابنا وهو موضوع البحث ، لكنني أقول إن المؤلف محمد شنيشل فرع الربيعي ملتفتا بما فيه الكفاية ليختار هكذا عنوان وهو من يريد أن يطلق عنان تفكير المتلقي في كل الإتجاهات إيمانا منه بأن التغيير حاصل ، والحداثة رغم تمردها لابد منها ، فهو القائل في مقدمة كتابه أكتب أيها الإنسان فنصك محترم ، وأنت في عمقك حكيم). أعتقد أن الأستاذ محمد شنيشل الربيعي كان تواقا أن يثير حفيظة القاريء في هكذا تساؤلات التي سنجد لها إجابات بتواصلنا من خلال قراءة هذا المؤلف الثري بحركة التجديد والحداثة .

تساؤلات في الابتداء وهي ضرورة من ضرورات القيام بالبحث أو القراءة ، فهذا التأصيل الاستفهامي يترتب عليه اللاحق من القراءة .حينما يتشكل في ذهن القارىء بعدا معرفيا جديدا بعيدا عن التعنت والاستخفاف بما يراه الآخرون صائبا كان ام خاطئا ، إنما هو تجديد على مستوى الفطرة ، والبحث عن تلك الحكمة الضالة . 

لقد كان للحكمة بصمة واضحة من قبل الشعراء وخصوصا في العصر العباسي ، كما أنها لم تغب عن الشعر في العصر الجاهلي إلا أنها كانت أبياتا متناثرة .

لقد كان لموضوع الحكمة ارتباطا وثيقا بالأدب وخاصة مع الشعراء ليصبح الشعر مع الحكمة أساسا للأدب وامتدادا من الحقبة السومرية التي أكد المؤرخون والاثريون في استباقها الوجودي (راجع ، عبد الجبار الفياض حكيم من أوروك) وتقدير تاريخ نشأتها ، ودراسة موطنها الأصلي . 

قال عن الحكمة السومرية رجل الدين المسيحي سهيل قاشا في باب الحديث عن “فلسفة السومريين” قال :(الحكمة السومرية...حكمة عملية تصلح لتكوين مجتمع هادئ رزين يدين بالإنسانية السلمية تسوده المثل العليا وتسيره وهو بحق مثال حي للمجتمع الإنساني الراقي . ) 

إن الحديث عن الحكمة والفلسفة في شعر الفياض - إن صح التعبير   - أعتقد ان الشاعر اراد أن ينقل تجاربة ومعاناته بلغة جزيلة المعنى ممتلئة الرجحان بمفاهيم الفلسفة والحكمة عندها يستطيع  القاريء أن يستبصر بها كنه النص والغوص في اعماقة لتكتمل عنده الصورة في فهم ما اراد الشاعر الفياض أن يعبئ بها نصوصه من المعرفة التي تقود إلى الفلسفة فالحكمة من خلال فهمه للطبيعة البشرية من خلال التمعن والتفكير تصقلهما خبرته الطويله . فاستطاع المؤلف التعامل مع شعر الفياض بسمو فكر وعمق إدراك لما يكتنف النص من مجهول الفكرة والمعنى فكانت رؤاه التبصرية في استنطاق النص بما استوحاه من حكمة ابصرها أو فلسفة سعى وراءها لتكشف له الحقيقة بأدواته المعرفية واستدلالاته التي أحكم قبضته على مكامن قوتها .

لا أريد الخوض في المعنى اللغوي والاصطلاحي للحكمة لكنني أريد ان اقول أن شعر الفياض ، هذا الشاعر العراقي البصري بسحنته السمراء والتي هي بشارة وجوه أبناء الجنوب بصفة عامة المعفرة بتراب وادي الرافدين ، قد يميل شعره إلى الفلسفة والتوثيق وهذا لا يعني أنه بعيد عن الحكمة إذا عرفنا أن الفلسفة هي باب من أبواب الحكمة إذا انفصل العقل عن العاطفة.  

لقد كان مؤلف الكتاب ملتفتا بما يراه مستقرا في ذهن القارىء من شحن ، وتوهج ، وانتاج ، وذلك بتنوع اختياراته لما كتب عن الشاعر عبد الجبار الفياض وجعل منها مادة ثرية لطرح رؤاه وافكاره النقدية بطريقة حوارية أقرب منها لفرض.