د. هاشم غرايبه لا يفوق المسجد الأقصى مكانة في الدين سوى البيت الحرام والمسجد النبوي، لكن لم توصف أرض بالمباركة والمقدسة سوى القدس والأرض المحيطة بها وهي بلاد الشام، وسميت بأرض المحشر والمنشر. ولعل المتمعن في دلالات قصة الإسراء، لابد سيستوقفه التساؤل: لماذا نقل الله نبيه الكريم الى المسجد الأقصى قبل أن يعرج به الى السماء، ولم يكن ذلك من المسجد الحرام مباشرة، المؤكد أن الربط بين المكانين كان ليرتبط المكانان في وجدان المؤمن بهذه الرسالة الخاتمة لكل الرسالات والمهيمنة عليها، لأن هذه البقعة من الأرض ستكون والى أن يرث الله الأرض عقر دار الإسلام. نستمد هذه الحقيقة من الحديث الشريف الوارد في الصحيحين: عن أبي ذر قال: “قلت: يا رسـول الله أي مسجـد وضـع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحـرام. قـال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد”. إذاً فقد كان هذا تقدير الله، لذلك أمر إبراهيم عليه السلام بأن يُسكن إبنه الوحيد إسماعيل وأُمَّهُ عند أول مسجد بني للناس لينشأ من ذريته خاتم الأنبياء هناك، فيما أسكن الشطر الثاني من ذريته من أبناء إسحق عليه السلام أكناف المسجد الثاني(الأقصى) أي بلاد الشام، لتنزل هناك الرسالات السابقة. هكذا نفهم ربط المسجدين جغرافياً من خلال حادثة الإسراء، لكي يبين لنا المولى عز وجل أنه بالأقصى وأكنافه بدأت الرسالات الأولى بشرائع خاصة بالرسل والأقوام التي أرسلوا إليها والتي دعت جميعها الى الدين الواحد: الإسلام، ثم انتهت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت بالبيت الحرام وأكنافه(المدينة) والتي اكتمل بها الدين ذاته. من ذلك نفهم قدسية هذين المكانين بالنسبة الى الدين الإسلامي والذي يشتمل الرسالتين السابقتين اللتين نزلتا على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، لذلك فالأماكن المرتبطة بهاتين الرسالتين تتأتى أهميتهما من ارتباطهما التاريخي، أما المسجد الأقصى فأهميته من الأرتباط العقدي بالدين ذاته، بمعنى أن كنيسة القيامة ومسجد قبة الصخرة مرتبطان بتاريخ الدين ومحطاته الدعوية، أما المسجد الأقصى مثله مثل المسجد الحرام مرتبطان بالعبادة التي هي عماد الدين، لذلك لا يمكن المساومة على وضعهما، فالسيادة عليهما ليست دولية بل لله وحده متمثلة بدينه، لأنهما قاعدتان للدين الذي هو الإسلام، ولا يجوز أن يكونا بأي حال من الأحوال خاضعين لأية سيادة غير إسلامية. منذ فشل محاولة ابرهة الحبشي للإستيلاء على المسجد الحرام، لم تجرؤ القوى المعادية لله ودينه على إعادة الكرة، لذلك ركزوا جهودهم على المسجد الأقصى وأكنافه، من هنا كان التمسك بهما مجلبة للصراع، والجهاد لاسترجاع ما يحتل من أيهما هو فرض عين على كل مسلم، ومن يتخلف عن ذلك فهو من الخوالف المنافقين. روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم: “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ (فريق أو مجموعة) مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إلا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ (شدة وضيق معيشة) حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ (جوانب) بَيْتِ الْمَقْدِسِ”. من ذلك نتوصل الى أن المنافقين في هذا العصر يتمثلون بالخوالف الذين يقبلون بالتخلي عن بيت المقدس وأكنافه، ويكتفون بالتفاوض لتحسين شروط احتلالها، والطائفة المؤمنة من الأمة هي التي تجاهد لتحرير فلسطين كاملة. |