محمد مظلوم
تتيحُ قراءة هذه المجموعات الشعرية لأربعة أصوات جديدة من الشعر اللبناني، الاطلاع على راهن المشهد الشعري الجديد في عاصمة الحداثة الشعرية العربية في الخمسينات والستينات. وعاصمة الصحافة العربية كذلك، وهذا ما يمكن أن ينعكس بتأثير لا يخفى للصحافة على القصيدة سواء في شكلها أو لغتها أو حجمها... ومثل هذا الأثر ربما يختلف عمَّا عليه الأمر في بقية العواصم العربية. ما يجمع الدواوين الأربعة توجهها نحو مضامين متعدِّدة، واهتمام أكثر بما هو شخصي. وعلى الصعيد الفني تنحاز جميعها إلى شكل قصيدة النثر، مع تباينات بقدر ما في مستوى هضم هذا الشكل، ومع هذا يمكن لمس تباين في تجليه من خلال الأداء الفني داخل قصيدة كل من هذه الأصوات. وبهذا المعنى تمنح هذه المجموعات الأربع مشهداً من الفسيفساء داخل لوحة واحدة. عنوان مجموعة ملاك مكِّي «كأنني أسابق صخرة- دار النهضة العربية» يلخِّص مجمل ما تقوم عليه استراتيجية كتابتها وأعني: المفارقة، فالصخرة تحيل إلى «عناء سيزيفي» وإن بدت هنا في حالة معاكسة من الحركة إلى السكون، لكنها بقيت تشير بجلاءٍ إلى عبث المسعى وخيبة الوصول، وتعتمد ملاك في معظم قصائدها على الجمل الشعرية القصيرة، لكن مثل هذه الجمل ليست كافية، وحدها، لخلق قصيدة، فما هي سوى شلوٍ من جسد القصيدة لا يتيح الكشف عن هوية الجسد كله. وإلى جوار القصائد ذات الجمل الخاطفة المكونة من سطر أو اثنين، ثمة بضع قصائد تستغرق في السرد، وتلتبس بالقصِّ، وقصيدة ملاك قصيدة «نسوية» موضوعها ينوس بين الأنوثة والطفولة، بالأحرى بين رموزهما الخارجية لا في باطنهما الكلي: نكهة الشوكولا وشجرة الليمون، والفراشات، والزهور والجدة، والبالونات الملونة، وقصص ما قبل النوم، إزاء النظارة، والتنورة، والقميص، وربطة الشعر...، وقد تعكس مثل هذه الأشياء صورة تقريبية للشخصية وتشير إلى علاقة شيئية معها، لكنها غالباً ما تبقى (أشياء) في حيزها الخارجي ولذا سيكون مهماً للشاعرة أن تتجنّب الحذر وتتنكَّب الخطر في التجرؤ على اللغة وفي القول الشعري، وتحديداً في عدم الإفراط بالمجازي على حساب التفريط بالحسي: «أحتالُ على النَّهارِ وأُبقيهِ خارجَ الغُرفةِ/ بينما يتكدَّسُ الانتظارُ فوقَ جَسَدي» ذلك أن أغلب قصائدها تخطيطات عاجلة لحالات شخصية، في بوح خافت وهادئ وربما متلعثم لكنها لا تبلغ مدى الصرخة القادمة من الداخل ولا يستهويها الاعتراف. ومن الطبيعي أن تكون المفارقة القوام الأساس الذي تقوم عليه مثل هذه القصائد، لكنها مفارقة قد تقع في الالتباس أو بالأحرى الارتباك كما في جملة: «لا دَاعِي للمفرّ منه!»معجم ملاك رومانسيِّ «نظيف»، إذ لا تبدو مرتابة بما فيه الكفاية من اللغة. وهي «تكتفي بحياة واحدة في بالون ملوَّن يسافر بها إلى الفضاء» وإذا كانت متلعثمة أحياناً في مقاربة تجربتها بعمق، فإنها لا يُرتجُ عليها حين تكتب عمَّا حولها، من آخرين ومشاهد عامة وحالات مرئيِّة، وهنا يغدو شعرها أكثر جلاءً، وعلى هذا النحو فإن ملاك مكي ستحتاج أن تدير عدستها إلى الداخل وأن تفتحها أكثر على ذلك المكان من أجل إضاءة ظلامها الداخلي والإصغاء له جيداً. وفاء أخضر: «لست بخير أبداً» على اختلاف مع ملاك مكي، تسعى وفاء أخضر في ديوانها (لست بخير أبداً- دار النهضة العربية) إلى رسم صورة أسطورية للأنثى بألوان حارة ولغة أكثر صخباً سواء على صعيد المفردة، أو العبارة وفي سعيها هذا تبدي شغفاً بالنموذج البدئي، مقروناً بمُحرَّميّ: الجنس والمقدَّس، فتتجول في سلالات شتَّى: من عشتار إلى مريم، وتستعير أرحاماً أخرى. «أحتاجُ أنْ أعودَ أنثى عاديةً/ من الزمنِ الأوَّل/ تطرقُ بابكَ بخفر/ وكلُّ ما فيها يدعوكَ إلى وليمةِ حبّ. «أنا مِنْ ضلعهِ وهو من رَحمي/ له أنْ يحضُنني ولي أن أحتويه» و «ألدك مرَّات» بل لا تتوانى عن استعارة هويات ذكورية قلقة: «أنا هاملت وأدويب والغريب ومسخ كافكا» غير أن مثل التدفق لمياه الينابيع الداخلية عادة ما يكون مصحوباً بوحل النهر قبل أن يصل المصبَّ، بمعنى أن طاقة وفاء واضحة لكنها أشبه بطاقة حِمَمٍ تقذف بكل ما تنطوي عليه من مادة خام تعوزها تنقية أكثر. وهذا ينطبق على الإيروسية القلقة في بناء العلاقات بين مفردة وأخرى، وبين الطغيان والعصيان فهي تحتفي بالأنوثة، وتهجو الذكورة بل ترتعب إزاءها: «كنت دوماً أخشى الذكر: أتخيله بندقية أتخيله سوطاً أو خازوفاً!»وإذا كان في شعر ملاك مكي براءة وشفافية فهنا ثمة غضب ورفض، بلغة حادَّة وغُلمة صريحة تذكرنا بولَّادة الأندلسية: «جَسَدي جزيرةٌ بكرٌ مُشتهاةٌ/ لا يؤمُّها إلا تائهونَ وغُزاة.» ولو قرأنا الشعر بوصفه وثيقة شخصية، فإن شعر وفاء يمكن أن يعدَّ نموذجاً ممتازاً لاعترافات امرأة على كرسي القصيدة، لكن أهي مجرد مؤلِّفة هنا؟ أم البطلة؟ إنِّها تستخدم خطاب المتكلم في مقاربة جانبٍ من المسكوت عنه: «في الخامسة أو السادسة/ لا أذكرُ/ نادتني ابنةُ الجيرانِ/ لامستْني بحنانٍ/ لم أقاومْ/ أرادتني بلا ثيابٍ/ لم اتردَّدْ/ كانَ مأتماً/ كان عُرساً». كما تظهر إشكالية العلاقة بين الأب والأم في أكثر من موضع وبصيغ لا تخلو من عدمية: «عالمُ أبي وأمِّي فيهِ معاهداتٌ وملابساتٌ وِعراكٌ/ وأطفالٌ كثرٌ يسقطونَ سهواً في المرحاض». شعر وفاء فيه الكثير من القول، وإذ تنجح في التجوال داخل سراديبها وتلتقط منها ما يتاح، فإنها تبقى في حاجة إلى العناية بكيفية القول، ولأنها تتحدث من داخل بركان فقد جاءت عباراتها شظايا متوهجة، ولم تمسك بالقصيدة بعد... ومثل هذا الإمساك سيأتي مع شاعرة تَعدُ بالمزيد. دارين حوماني: «العبور بلا ضوء» تولي دارين حوماني في ديوانها «العبور بلا ضوء/ فواصل للنشر» عناية أكثر للقصيدة مما لدى سابقتيها، ويبدو هذا الأمر طبيعياً مع شاعرة لا تقدم مجموعتها الأولى، ومن هنا فإن اختلافها عنهما ليس معيارياً تماماً، بمعنى أنه لا يتمثل في المستوى، وإنما في الطبيعة والدربة، فاللغة هنا أكثر أناقة ونقاءً، والصور مشيَّدة بحرص حيث تهتم بالتقاط حركة الخارج لترسم مشهدية أكثر عمقاً وبضجيج أقلّ وهي أكثر انتباهاً للتفاصيل فتلتقطها بعين بصيرة وتحيكها بروية لتخلق قصيدتها وعلى رغم تمكنها من أدواتها بالعموم، إلا أن ثمة بعض الهنات اللغوية التي شابت نقاء قصيدتها.وإذا كانت وفاء أخضر تكتب عن حياتها من عمق السراديب المظلمة للذات، فإن دارين تكتب حياتها الشخصية من نوافذ عالية، ومُشرِفة على اللحظة الجماعية العامة وعلى ماضيها الشخصي، حيث تستعيد صورة تلك «الطفلة السادسة» للعائلة، متذمرة أحياناً من أن يكون الفرد رقماً في الأسرة وفي هذا العالم. وتصغي جيداً لإيقاع الحياة وللأثر الكبير الذي تتركه التفاصيل المهملة، حين تنظر إلى الأشياء على أنها كائنات تحيا وتموت وليست راسخة في جمودها. وفي هذا الجانب تمثل الأشجار بؤرة مركزية في فضائها الشعري: «الأشجارُ هناكَ أيدي آلهةٍ/ وكنَّاسُ الموتِ يزيحُ الغبارَ عنها/ صامتاً لا يُحسنُ الكلامَ مَعَنا... النافذةُ التي أفتحُها كلَّ صباحٍ/ فأستعيدُ الرؤوسَ المقطوعة» وكذلك يحضر الموت ثيمة مضافة «لن يكتمل الضوء في عالمي/ إلا بعد بلوغ العتمة الكبرى/ الشجرة تسردُ تفاصيلَ من مرّوا على عنقِها بأسى بالغ». و «جذعُ شجرةٍ مقطوعٌ من وسطه يخاطبُ نفسه» وهكذا يرتبط مصير الأشجار بمصير الإنسان ويتعدّى إلى ملامسة تاريخ قاس من الفجيعة: «الأشجارُ مقطوعةُ الرأسِ في مثلِ نفسِ اليومِ الذي قطعوا فيه رأسَ الحُسين». |