بغداد / المستقبل العراقي

بعد ما قام تنظيم «داعش» بتفجير منارة الحدباء في الموصل في 21 حزيران 2017، كان من الصعب تصور إعادة بناءها من جديد. لكنّ الأمر لم يعد يبدو صعباً، بعدما تقرّر في 23 نيسان 2018 إعادة إعمار المئذنة بموافقة حكومة العراق على تمويل إماراتيّ وإشراف منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» والاتّحاد الأوروبّيّ، وفق ما أعلنه محافظ نينوى نوفل سلطان العاكوب إلى وسائل الإعلام في 6 أيّار 2018، عن «البدء بإعمار جامع النوري ومنارة الحدباء، في منتصف حزيران/يونيو 2018».

وكشف النائب في البرلمان العراقيّ عن محافظة نينوى محمّد نوري العبد ربّه، عن أنّ «المرحلة المقبلة بعد دراسة عروض إعادة الإعمار، وموافقة الجهات الحكوميّة، هي تهيئة الخرائط والرسوم التصميميّة، من قبل الجهات التي سوف تقدّم عروضها»، مؤكّداً أنّ «عمليّة إعادة الإعمار تحتاج إلى تمويل جيّد، أكثر، وفق التخمينات، من المبلغ الذي رصدته دولة الإمارات العربيّة المتّحدة البالغ نحو الخمسين مليون دولار، وجهود خدميّة هندسيّة كبيرة، لأنّ المنطقة مسحت تماماً من الخارطة، وتحتاج إلى خبرات اليونسكو لكي يعاد بناؤها طبقاً للأصل».

ويكشف العبد ربّه عن «بدء جهود عمليّات تطهير المسجد من العبوات، وإزالة الأنقاض، وعمليّات توثيق الأضرار وجدولتها، وجمع القطع الأصليّة المنهارة، وقد أحيطت المنطقة بحاجز حماية، لمنع فقدان موجودات المكان، والتي هي عبارة عن متبقّيات المئذنة والمسجد».

تفاصيل فنّيّة أخرى كشف عنها قائممقام الموصل زهير الأعرجي، الذي أشار إلى أنّ «مخطّط إعادة البناء وضع بعد مباحثات واجتماعات مع اليونسكو، تمّ خلالها الاتّفاق على التصاميم، وتخمينات الكلفة، ودراسات الجدوى، لتنطلق بعد ذلك الخطوات العمليّة التي سوف تستغرق نحو أربع سنوات، وفق التقديرات الحاليّة»، معتبراً أنّ «طول الفترة يعود إلى أنّ المنطقة واسعة، وذات أهمّيّة تاريخيّة، ويجب أن يعاد بناؤها وفق المعطيات التاريخيّة المتوافرة لكي تكون مطابقة للأصل».

 ويعود تاريخ مسجد النوري ومنارته الحدباء إلى القرن الثاني عشر، إذ يقول أستاذ التاريخ الحديث المتمرّس في جامعة الموصل الدكتور ابراهيم العلاف إنّ «نور الدين الزنكي الذي حكم الموصل أمر ببنائه في عام 1172 ميلاديّ»، كاشفاً عن أنّ «هذه ليست المرّة الأولى التي يتضرر فيها المسجد فقد أعيد إعماره في عام 1942».

ويشير العلاف إلى أنّ «المنارة الحدباء هي المعلم الوحيد الباقي من المبنى الأصليّ للمسجد، ونظراً إلى قيمتها التاريخيّة فقد طبع رسمها على الأوراق النقديّة العراقيّة».

يتصفّح العلاف الوثائق والرسوم التي في حوزته عن المنارة، فيقول إنّ «رتفاعها يبلغ 55 متراً، فيما تبلغ مساحة المسجد حوالى الستة آلاف متر مربّع، وتتألّف من قاعدة عريضة، تجمّل رسوم من الزخرفة الإسلاميّة واجهاتها الأربع، وقد بنيت من مواد الآجر والجصّ والرخام، وقد كلّف بناء الجامع في حينه 60 ألف دينار من الذهب». وفي حين اعتبرت ممثّلة منظّمة اليونسكو لدى العراق لويز هاكستاوزن في 23 نيسان 2018 أنّ «إعادة بناء المئذنة، مشروع طموح، يحمل رمزيّة عالية لتحرير الموصل»، فإنّ رئيسة لجنة الثقافة النيابيّة ميسون الدملوجي، المنحدرة من الموصل، كشفت عن أنّ «المشروع الجديد سوف لا يعنى بالجوانب الماديّة والبنائيّة للمشروع فحسب، بل سوف تحرص الجهات العراقيّة على التركيز على إبراز الإرث الثقافيّ والفنّيّ، وإعادة إحياء التفاصيل الأصليّة بكلّ دقّة مثل الزخارف والنقوش والكتابات»، كاشفة عن أنّ «الهيئة الوطنيّة للآثار والتراث، إلى جانب خبراء عراقيّين في التراث، ومهندسين معماريّين من الموصل نفسها، سوف يشاركون في المشروع».

كما بيّنت الدملوجي أنّ «إحدى الآليّات المهمّة في إعادة إحياء النسخ الأصليّة هي الاستفادة من بقايا القطع والركام التي خلّفها التفجير»، مؤكّدة أنّها «تحثّ السلطات المحلّيّة هناك على ضرورة عدم إتلاف البقايا التي تعود إلى الأثر الأصليّ أثناء أعمال التنظيم وإزالة الركام». التفاصيل التي تحرص الدملوجي على أن تكون مواكبة لمشروع المئذنة الجديدة الموعودة، يعّبر عنها ‎العالم في الآثار الإسلاميّة والخبير في منظّمة اليونسكو‎الذي يسكن في الموصل الدكتور أحمد قاسم الجمعة بقوله لـ»المونيتور» إنّه «مهما بلغ الحرص على توظيف كلّ التفاصيل الأصليّة في المشروع الجديد، إلّا أنّه لن يكون بقيمة الأثر الأصليّ نفسه الذي نسفه تنظيم «داعش»».

أحد أسباب الاختلاف المتوقّع بين الأصليّ والمقلّد المنتظر يوضحه الجمعة، فيقول: «المئذنة والمسجد تميّزا بتفاصيل فنّيّة دقيقة، مثل أعمدة المصلّى الرخاميّة المتميّزة، والتيجان المكعّبة، والأشرطة الكثيرة والتي تضمّ مفردات مأخوذة من الآيات القرآنية، وكذلك محراب المسجد الجامع والمشغول بزخارف الأرابيسك العربيّة والمنفّذة على الرخام».

كما يكشف الجمعة عن أنّ «محراب الصلاة الصيفيّ المصنوع من الرخام نقل إلى متحف بغداد، ولا يزال محفوظاً هناك». فضلاً عن ذلك، فإنّ الجمعة الذي رافق وفد اليونسكو في جولته إلى المكان، تمهيداً لانطلاق المشروع، يمتلك الكثير من المعلومات الموثّقة حول المئذنة والمسجد فيقول «أحتفظ بالوثائق التي تحتوي على خرائط تخطيط الجامع وعناصره المعماريّة و قياساته وأماكنه الأصليّة».

يضيف الجمعة: «انشغلت لمدّة عام كامل في استطلاع ميدانيّ للمئذنة والجامع، قبل دخول «داعش» إلى الموصل، في عام 2014، ووثّقت تفاصيل الهيكل، ووحداته البنائيّة الخزفيّة التي تحتوي على أكثر من 500 تخطيط هندسيّ ورسم فنّيّ». وفي حين يكشف الجمعة عن أنّ «للجامع أهمّيّة معنويّة واجتماعيّة ودينيّة كبيرة، إذ كان على مرّ الأزمان، المكان الذي تعقد فيه الاجتماعات واللقاءات في المناسبات الدينيّة والرسميّة العامّة»، فإنّ هذه القيمة الاعتباريّة توجب إعادة البناء بطريقة تحافظ على روح المكان وأهمّيّته الدينيّة والتاريخيّة لأهالي الموصل الذين يشعرون اليوم بالسعادة لأنّهم تحرّروا من «داعش»، وإن عودة المئذنة منتصبة في سماء المدينة، ستكون تجسيداً لقدرتهم على استعادة الحياة من جديد.