السوداني: حزمة مشاريع فك الاختناقات المرورية ستسهم في التقليل من هدر وقت المواطنين AlmustakbalPaper.net وزير الداخلية يناقش تطوير العمل في مواقع تسجيل المركبات AlmustakbalPaper.net مجلس النواب يصوت على توصيات لجنته بشأن فيضانات دهوك وتعديل قانون العقوبات AlmustakbalPaper.net طلب برلماني الى السوداني بمنح عيدية 100 ألف دينار للمتقاعدين AlmustakbalPaper.net صندوق استرداد أموال العراق يعيد قرابة (7) مليارات دينار لوزارة المالية AlmustakbalPaper.net
في «أكل لحوم البشر»... الوحش الذي يسكننا!
في «أكل لحوم البشر»... الوحش الذي يسكننا!
أضيف بواسـطة
أضف تقييـم
الصحبي العلاني
عندما أفاقت أوروبا من سبات القرون الوسطى وشرعت في وضع أسس نهضتها وفي إعداد الأساطيل التي ستعْبُر بها البحار وتخترق المحيطات باتّجاه «الشرق البعيد»، لم يكن أحدٌ فيها يتصوّر أنّ «الحسابات الخاطئة» ستحملها في الاتّجاه المعاكس نحو الغرب وستقودها إلى اكتشاف «العالم الجديد». كان ثمّة في الظاهر، ظاهر التاريخ، وعلى السطح، سطح الجغرافيا، تحوّلات متسارعة لا تُخطئها العينُ؛ ولكنّ الباطن، باطن التمثّلات، كان يُخفي مراجعات بطيئة صامتة في منتهى العمق والتأثير. فمع تقدّم الرجل الأبيض باتّجاه الغرب، رحلةً بعد أخرى، وفي كلّ خطوة كان يخطوها على البرّ ويواجه خلالها سكّان البلاد الأصليّين ويستحوذ على أراضيهم وخيراتهم بقوّة الحديد والنار، كانت أوروبا تُحيِّنُ صورة الآخر القديمة وتعيد تشكيلها بما يتناسب مع السياقات الطارئة التي وضعتها وجهاً لوجهٍ أمام شعوب وقبائل لم يسبق لها أن رأتها ولا أن عرفتها. وفي صميم عمليّة التحيين وإعادة التشكيل هذه، خرج إلى الوجود «آكلو لحوم البشر»!
في كتابه الصادر أخيراً آذار 2018 عن دار سوي الباريسيّة للنشر تحت عنوان «في استمراء الآخر- شذراتٌ من خطابٍ آكلٍ للحوم البشر»، يسلّط الباحث الأنتروبولوجيّ التونسيّ ذو اللّسان الفرنسيّ منذر كيلاني أضواء جديدة على هؤلاء الذين اشتهروا بكونهم «أَكَلَةً» نهِمين مُرعبينَ لا يتورّعون عن التهام بني جلدتهم وعن استطابة لحمهم ومصّ عظمهم، ويدعونا عبر صفحات كتابه التي ناهزت الأربعمائة إلى المشاركة في مأدبة من طراز رفيع!  مفهوم «واضح»... و»حقائق» غامضة! من زاوية نظر لغويّة تاريخيّة خالصة، لم يظهر مصطلح «آكلي لحوم البشر» في اللّغات الأوروبيّة المختلفة [في الإسبانيّة (canibalismo)، وفي الإيطاليّة (cannibalismo)، وفي الفرنسيّة (cannibalisme)، وفي الإنجليزيّة (cannibalism)] إلا في أعقاب تعرّف الرحّالة المستكشف كريستوف كولومبس (1451-1506) على من سمّاهم «شعوب الهند الغربيّة». ومعنى ذلك أنّ مصطلح «آكلي لحوم البشر» (أو «كانيباليزم») مصطلح طارئ على الثقافات الأوروبيّة، وافد عليها، وأنّ الأوروبيّين اتّخذوه لوسم شعوبٍ لم يكن لهم بها سابق معرفة وليس لهم معها أيّ اتّصال.
ولعلّ أغرب ما في هذا المصطلح أنّ الأوروبيّين -لحظة اعتمادهم إيّاه في لغاتهم وإجرائهم له على ألسنتهم- قد أقاموه على شكل من أشكال التحريف الدلاليّ وعلى ضرب من ضروب التلاعب المفهوميّ. وهذا ما يدفعنا إلى تفصيل القول في نقطة محوريّة من المحاور التي انبنى عليها الكتاب.
ومدار هذه النقطة أنّ الشعوب التي كانت تقيم في الأرخبيل الواسع الواقع بين أميركا الشماليّة وأميركا الجنوبيّة، والتي كانت تُطلق على نفسها اسم «كارا - ييب» (أي الرجل الحكيم، الشجاع، القويّ؛ والشعوب الحكيمة، الشجاعة، القويّة)، وجدت نفسها تحت مسمّى جديد لا يعكس هويّتها الأصليّة الأصيلة التي طالما تمثّلتها وأعلنت عن نفسها من خلالها. فمع بلوغ كريستوف كولومبس سواحلَ «العالم الجديد» وشروعه في إنزال رجاله هنالك تحت غطاء من حديد ومن نار تمّ تحويل دلالة «كرا - ييب» الأصليّة القائمة على معاني الحكمة والشجاعة والقوّة، إلى دلالة أخرى جديدة اختلقها الغزاة المستعمرون اختلاقاً، دلالة «كاني-بال» التي اختُزلت فيها أقصى معاني الوحشيّة والفظاعة وأقساها. وهل ثمّة فعلٌ يُمكن أن يُدانَ أكثرُ من فعل إقدام الإنسان على أكل أخيه الإنسان؟
في مثل هذا السياق، سياق الاكتشافات الكبرى التي أتاحت للأوروبيّين أن يؤسّسوا «العالم الجديد» وأن يمتلكوه وأن يرسموا خرائطه وأن يُطلقوا على أقاليمه الأسماء التي شاؤوا، انبثقت في لغات الغزاة (بل في لغتهم الواحدة المشتركة، لغة الاستعمار التي أساسها الحديد والنار) مقولة «أكل لحوم البشر» (أو الـ»كانيباليزم»). فأدرجت من خلال ذلك شعوب بأكملها ضمن خانة الحيوانيّة والتوحّش وهي التي كانت في أصل تسميتها شعوباً تنتسب إلى الحكمة والشجاعة والقوّة!
وبين «الوضوح» الذي يسم مقولة «الكانيباليزم» أو «أكل لحوم البشر» (منظوراً إليها من زاوية لغويّة تاريخيّة خالصة)، و»التلبيس» الذي قامت عليه منذ نشأتها (وهي التي انبثقت من رحم التحريف وترعرعت في كنف الاستعمار)،  لم يكن أمام منذر كيلاني من حلّ سوى أن يعترف بأنّ دراسة موضوع كهذا (أو بالأحرى، إعادة دراسته والنظر فيه) تحتاج إلى حذر منهجيّ استثنائيّ وإلى رؤية تتخطّى سطحه الظاهر البادي للعيان وصولاً إلى عمقه الخفيّ المربك.
من طمأنينة الوضعيّين إلى «جنون» فوكو!
ولبلوغ هذه الغاية، توقّف منذر كيلاني في مقدّمة كتابه عند أبرز الآثار التي سبق لها أن تعرّضت لمسألة أكل لحوم البشر. ومن أقدمها على الإطلاق عمل الرحّالة الألمانيّ المغامر هانس شتادن (1525-1579)، وهو عمل اتّخذ صبغة الشهادة الحيّة التي ضمّنها صاحبها حصيلة إقامته في سواحل البرازيل بين أفراد قبائل «التوبينومبا» خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. وقد تداول الأوروبيّون جيلا بعد جيل هذا العمل واعتمدوه من أجل رسم خرائط تفصيليّة حُدّدت بمقتضاها أماكن توزّع الشعوب التي عُدّت آكلة للحوم البشر على امتداد أمريكا الجنوبيّة. أمّا عمل الأنتروبولوجيّ الألمانيّ إيفايد فولهاد (1900-1945) الصادر سنة 1939 (أي في خضمّ تصاعد الحركة النازية) فقد كان مجال اهتمامه أوسع أفقا وأكثر امتدادا لأنّ صاحبه ضمّنه معطيات إحصائيّة تفصيليّة عن مدى انتشار المجموعات البشريّة آكلة لحوم البشر عبر العالم، شعوباً وقبائل. وكان تعداده لها على كما يلي: 400 مجموعة بشريّة آكلة للحوم البشر في إفريقيا، 50 مجموعة في أستراليا، 70 في غينيا الجديدة، 126 في ميلانيزيا، 27 في بولنيزيا، 7 في ميكرونيسيا، 50 في أندونيسيا، 32 في شمال أمريكا، 116 في أمريكا الجنوبيّة. وعلى ما يقرب من هذا النهج القائم على الإحصاء والتعريف والاستعراض سار الباحث الفرنسيّ مارتن مونيستيي (1942-؟) في كتابه «تاريخ أكل لحوم البشر وغرائبه، ماضياً وحاضراً» فجمع طائفة من الأخبار ونتفاً من الآثار وكمّا من الوثائق والشهادات تلتقي كلّها لتؤكّد أنّ ثمّة عبر العالم وفي مجرى التاريخ قديمه والمعاصر شعوباً وأفراداً يتلذّذون أكل لحم من يشاركونهم صفة الآدميّة! ورغم أهميّة مثل هذه الآثار التي كانت سبّاقة في تناول مسألة آكلي لحوم البشر، أهميّتها من جهة أنّ بعضها استند إلى المعاينة المباشرة وأنّ بعضها الآخر اعتمد على المعطيات الإحصائيّة الموثّقة؛ فإنّ منذر كيلاني لم يُخْفِ احترازه الشديد منها وتحفّظه الفائق عليها. ويمكن اختزال موقفه هذا في ثلاث نقاط أساسيّة: أولاها: أنّ هذه الآثار تضع جنبا إلى جنب وفي نفس المستوى من القيمة والأهميّة كافّة الشهادات والمعطيات المتعلّقة بظاهرة أكل لحوم البشر دون أن تتحرّى عند جمعها لها معايير الدقّة، ولحظة اعتمادها إيّاها الحدّ المطلوب من الموثوقيّة قبل إخضاعها للتحليل والاستنتاج. ثانيتها: أنّ هذه الآثار تخلط بين مستويات شتّى تجلّت ضمنها ظاهرة أكل لحوم البشر: مستوى الزمان، ومستوى المكان، ومستوى السياقات الوظائفيّة. وهي مستويات تقتضي ضروراتُ التناول العلميّ الرصين أن يقع التنبّه إلى ما بينها من فروق، فتناول لحوم القرابين البشريّة في بعض المجتمعات القديمة لا يمكن أن يُنزّل في نفس منزلة الجرائم الفرديّة التي قد تدفع بمرتكبيها اليوم إلى نهش أجساد ضحاياهم. ثالثتها، وهي الأهمّ: أنّ أكل لحوم البشر، من منظور علماء الأنتروبولوجيا، ليس من قبيل الظواهر التي يمكن للباحث أن يكتفي فيها بمجرّد التقصّي والإحصاء والتدقيق بغرض صياغة عمل يرضى عنه الجميع لمجرّد أنّه قائم على التحليل والتعليل؛ فمثل هذا التمشّي المنهجيّ (بالرغم من طابعه العلميّ البادي للعيان) ليس إلاّ ضربا من ضروب «الوضعيّة المبتذلة». وذلك ما نبّه منذر كيلاني إلى خطورة الوقوع فيه حين أشار إلى أنّ «أكل لحوم البشر [أو «الكانيبالزم»] -شأنه في ذلك شأن الجنون، وشأن الجنسانيّة- ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار على أساس كونه خطاباً يندرج ضمن سياق، خطاباً يسمح بالإخبار وبتنظيم الواقع دون أن يُطابق، مع ذلك، أيّة طبيعة بشريّة ثابتة» (ص. 15). ولعلّ أهمّ ما نخلص إليه في أعقاب ما تقدّم ذكره، وفي أعقاب النقطة الثالثة على وجه الخصوص، أنّ كتاب منذر كيلاني عن أكل لحوم البشر يؤسّس لرؤية في تناول المسألة تتجاوز حدود المنهج الوضعيّ الجافّ المنغلق على علماويّتة المبسِّطة التي لا ترى من الظواهر إلا سطحها البادي للعيان. فالأهمّ بالنسبة إليه ليس مراكمة القرائن الدالّة على أنّ هذا الشعب أو ذاك، أو هذه القبيلة أو تلك، أو هذا الشخص أو غيره قد أقدم على أكل لحم بشريّ في حركة لا يمكننا اليوم إلا استفظاعها؛ بل إنّ تصوّر الكاتب للمسألة يتجاوز هذا الحدّ للاهتمام بالمسألة من جهة الخطاب الذي أسّسها وتأسّس عليها. تماماً مثلما فعل ميشال فوكو (1926-1984) في دراسته الشهيرة عن «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». الأكلُ استعارةً كبرى... واحتفالاً صغيراً! على هذا النحو، إذن، وانطلاقا من هذه الرؤية المنهجيّة ذات الأصول التي تعود بنا جذورها إلى ميشال فوكو تناول منذر كيلاني مسألة أكل لحوم البشر لا باعتبارها «طبيعة ثانية»، أي سمة قارّة ثابتة انفردت بها بعض الشعوب والقبائل «البدائيّة المتوحّشة» دون بعض، ولا من منطلق كونها «مرحلة ظرفيّة» تمّ القطع معها وتجاوزها في سياق التطوّرات المتلاحقة التي شهدتها الممارسات الطقسيّة لدى سائر الشعوب، ولا على أساس أنّها «انحراف» أو «شذوذ» عن «السلوك السويّ» وقع فيهما بعض عُتاة المجرمين الذين سوّلت لهم أنفسهم أكل اللّحم الآدميّ  واستطابته واستمراءه؛ بل من جهة كونها استعارة كبرى لم تنفكّ عن توليد الدلالات وتخصيب المعاني.
ولتوضيح هذه الفكرة المحوريّة التي انبنى عليها العمل، يمكننا أن نقدّم أمثلة بسيطة هي في اعتقادنا الأكثر تعبيراً عن مقاصد الكاتب والأبلغ في بيان مراميه. فعندما يُبدي البعض منا ابتهاجه برؤية مولود حديث النشأة بهيّ الطلعة ويقول: «يا الله! شو ها الجمال! يتقرمش!»، فذلك ضرب من ضروب أكل لحوم البشر! وعندما يتغزّل العاشق الولهان بحبيبته ويعبّر عن اشتهائه التهام شفتيها، فذلك أيضاً ضرب من ضروب أكل لحوم البشر! وعندما تشغّل أنظمة الرقابة في كبريات المدن الغربيّة أجهزة الكاميرا المبثوثة في كلّ ركن وفي كلّ زاوية من زوايا الشوارع والأنهج والأزقّة، فذلك ضرب من ضروب أكل لحوم البشر! وفي جميع هذه الأمثلة وفي غيرها ممّا لا يتّسع المقام لعرضه وتفصيله يجد المتقبّل نفسه إزاء خطاب وممارسات «كانيباليّة» بامتياز! ولكنّ الاستعارة وحِيَلَ الأسلوب والتعابير المجازيّة تخفّف من وطأة الأكل على الآكل والمأكول معاً وتُبيح لهذا ولذاك ما حرّمته الشرائع وما استفظعه ترقّي الإنسان في مقام المدنيّة والتحضّر ورهافة الذوق و»إيتيكات» الحفلات الصغيرة.
عبر صفحات كتابه «في استمراء الآخر- شذراتٌ من خطابٍ آكلٍ للحوم البشر»، وعلى امتداد أربعة عشر فصلا جمعت بين الأدب والتاريخ والأساطير والشهادات والمراجعات وتحليل مفردات الفضاء العام وتفكيك أبنية الأنظمة الرأسماليّة لم ينفكّ الأنتروبولوجيّ منذر كيلاني عن تعرية الاستعارة الكبرى التي تورّطت فيها الحضارات جميعها، قديمها والمُحدث، «بدائيّها» وأكثرها أخذاً بأسباب «المدنيّة» و»التحضّر»، «استعارة الآكِل والمأكول». ومن خلال تحليل عميق للخطاب الذي تأسّست عليه هذه الاستعارة، فتح أمام قرّائه نهجاً مغايراً في معرفة الآخر وفي استمرائه وعشقه.. وبعض العشق التهام لا يُبقي في المعشوق شيئا ولا يذر.
رابط المحتـوى
http://almustakbalpaper.net/content.php?id=42089
عدد المشـاهدات 650   تاريخ الإضافـة 27/05/2018 - 08:09   آخـر تحديـث 11/02/2024 - 07:03   رقم المحتـوى 42089
محتـويات مشـابهة
بمناسبة اليوم الوطني للتشجير المعهد التقني في النجف يقم معرضاً للزهور والنباتات
الحكيم مهنئاً بولادة الإمام الحسن «عليه السلام»: ما أحوجنا اليوم لاتباع سيرته لخدمة شعبنا
البرلمان ينهي قراءة قوانين ويرفع جلسته الى اليوم
محذراً المخالفين.. محافظ ميسان يلزم البائعين والتجار بـ «السعر المعلن» للمواد الغذائية واللحوم
اليوم .. البدء الفعلي لحملة «العراق هويتي» في جميع دوائر احوال بغداد

العراق - بغداد - عنوان المستقبل

almustakball@yahoo.com

الإدارة ‎07709670606
الإعلانات 07706942363

جميـع الحقوق محفوظـة © www.AlmustakbalPaper.net 2014 الرئيسية | من نحن | إرسال طلب | خريطة الموقع | إتصل بنا