نصير فليح
عندما ينشأ صبي ويكبر، ويجد نفسه امام مسؤوليات اعالة نفسه وعائلته لان ليس هناك من يقوم بذلك سواه، فان دخوله معترك الحياة نفسها والتحديات والضغوط والمتطلبات هي من تكون معلمه الاول. وشيء من هذا يشبه الى حد كبير واقع الاجيال الجديدة التي نشأت في بلادنا. فقد وجدت نفسها في عالم جديد يختلف عن سابقاتها، فيه مصاعب كبيرة، ومتطلبات وطموحات، فيه شيء يسمى سياسة وانتخابات وبرلمان وكتل سياسية، وفيه ايضا حاجات اساسية مفقودة.غالبا ما كانت الحاجات الاساسية هي الشرارة التي تنطلق منها الاحتجاجات. وليس هذا شأن خاص بالعراق فقط، بل ان ما شهدته البلدان العربية (فضلا عن كثير من بلدان العالم) في الاعوام الماضية والى يومنا، غالبا ما ينطلق من هذه الاحتياجات المعيشية المباشرة ليتطور بعد ذلك الى مواقف سياسية. وقد اتيح للاجيال الجديدة عنصر اضافي لم يكن متوفرا سابقا، هي وسائل الاتصال والتواصل التي اصبحت في كل يد تقريبا. وما تراه على الشاشات من وقائع السياسة في بلدها وما يحيطها، بما في ذلك طرائق الاحتجاج وتوقيتاتها وشعاراتها، كل ذلك اصبح كتحصيل حاصل عنصر مهم في تشكيل الوعي السياسي الاحتجاجي.لا يحتاج الوعي المطلبي الاحتجاجي بالضرورة الى ثقافة عالية او ما شابه. الامر ابسط من ذلك بكثير. واولئك الذين لم تتح لهم الحياة ربما حتى تعلم القراءة والكتابة، يملكون من الحس السليم احيانا ما يفوق «نظريات» المنظرين وتحليلات المحللين. والاجيال الجديدة التي خرجت من رماد الحروب والعنف والخراب، وتطلعاتها الى حياة افضل، هي «مربط الفرس». انها النقطة التي تنطلق منها دورة الحياة من جديد بعد كل مرة تصل فيها وقائع المشهد الماساوي الى طرق مسدودة.كان ولا يزال هناك دائما من ينتظر لحظات احتجاج الناس ليركب الموجة، لمصالح معروفة، في غالبها سياسية وطائفية. والتعامل والموقف من هؤلاء اصبح عنصرا اساسيا في كل احتجاج شعبي جديد. وفصل النفس عنهم اصبح ضرورة في كل مرة تخرج الجماهير فيها للشارع بسبب ضغوط الحياة. وتحديد طريقة وتوقيت الاحتجاج المطلبي بعيدا عن التجييرات السياسية لها اصبح جزءا من قواعد اللعبة، يتنامى في الوعي العام ايضا، من خلال التجربة والممارسة، وما تؤدي اليه الاحتجاجات المطلبية من نتائج سياسية جانبية. لم يعد الناس في بلادنا يكترثون كثيرا لما يحدث في عالم السياسة المحض، والعزوف الكبير عن الانتخابات الاخيرة دليل واضح على ذلك. وفي الوقت الذي باتوا يتضورون من نقص الاحتياجات فانهم اتخموا بالوعود التي لم تتحقق. لكن متطلبات العيش الكريم شيء آخر، انها ليست مسالة «وجهات نظر». وستظل الاحتجاجات المطلبية مثل الزائر العنيف الذي يظل يطرق الباب بين فترة واخرى - ما دامت الابواب موصدة امامه - والاجيال الجديدة هي المرشح الاول لهذا الدور على مسرح الحياة. |