«الحديقة الحمراء» رواية غرائبية يتداخل فيها الواقعي والميتافيزيقي ---------------------------------- nbsp nbsp nbsp nbsp nbsp سلمان زين الدين في بداية «الحديقة الحمراء» دار الجمل يُصدّر الروائي المغربي محمد آيت حنّا الرواية بمقتبس من لويس كارول جاء فيه: « عند مدخل الحديقة كانت تنتصب شجيرة وردٍ كبيرة. أزهارها كانت بيضاء، لكن كان هنالك ثلاثة بستانيّين يصبغونها بالأحمر. وجدت أليس الأمر غريبًا، واقتربت لترى عن كثب.» ص 7،nbsp وفي النهاية، يقول الكاتب على لسان الغربي بنعمرو، إحدى الشخصيتين المحوريَّتين، في الرواية: « وحين نظرتُ خلل شقوق النافذة، شهدتُ أعجب شيء رأته عيناي إلى اليوم. رأيت حديقةً عجيبة، حديقةً حمراء، كلُّ ما بها أحمر» ص 137. وبذلك، تشترك البداية والنهاية في الغرابة لفظًا، من خلال اشتمالهما على كلمات «غريبًا»، «أعجب»، و»عجيبة». وتشتركان معنًى، من خلال تلوين الحديقة أو لونها الأحمر. على أن الغرابة لا تقتصر على البداية والنهاية بل تتعدّاهما إلى العنوان، والمتن بأحداثه وشخصيّاته والمكان والزمان الروائيين. ويشكّل العنوان العتبة الغريبة المناسبة للدخول إلى متنٍ غرائبي بامتياز.nbsp ثمّة مساران اثنان لا يلتقيان ينتظمان أحداث الرواية الغرائبية، يتمحور كلٌّ منهما حول شخصية معيّنة، ما يعني أنّنا إزاء مسارين متوازيين وشخصيتين محوريّتين مختلفتين، لكلٍّ منهما مسارها المختلف عن الأخرى في الزمان والمكان والمصير. أحد المسارين أرضي تشوب صاحبه أعطاب نفسية، والآخر أخروي تنتاب صاحبه نوبات حنين إلى العالم الأرضي. وعلى رغم توازي المسارين واختلاف الشخصيتين ثمة نقاط تقاطع بينهما؛ فكلاهما مزدوج العالم، وكلاهما ينخرط في حوارات ذات مفردات فلسفية تعكس خلفية الكاتب الثقافية، ناهيك بأن الشخصية الأولى تقرأ، في شريط تلفزيوني أحمر،خبر انتحار الثانية. الموظف المتقاعد يتمحور المسار الأوّل حول شخصية العربي بنعمرو، وهو موظّف متقاعد يعاني مرضًا نفسيًّا، يتوهّم أنّ ثمّة من سرق أحلامه، وأنّ ظلّه باهت، ويخلط بين الحقيقة والخيال، ويصطحب قرينًا معيّنًا. في الفصل الأوّل، تقدّمه الرواية خارجًا من جلسة علاج نفسي، ينخرط خلالها في حوار مع الطبيب المعالج يستخدم فيه مصطلحات فلسفية. وفي الفصل الأخير، تقدّمه خارجًا من شقّته الصغيرة التي يتوهّم فيها أحداثًا غريبة، مودّعًا الوقائع السلّم والذكريات ناتاشا ونهال. والخروج في الحالتين إلى غير رجعة. وبين الفصلين الأوّل والأخير، تتبلور الشخصية، ويتمّ رسمهاnbsp بشكل مباشر من خلال ما ترويه بنفسها، وغير مباشر من خلال ما يرويه الراوي العليم الذي يشكّل قناع الكاتب ويتقاطع معه في غير مطرح من الرواية بقرائن لفظية تؤكّد هذا التقاطع. ويتمخّض هذا الرسم، بشكليه المباشر وغير المباشر، عن شخصية غير متوازنة، أسهمت طفولتها في الوصول إلى هذه الحالة من عدم التوازن، فالغربي بنعمرو نشأ يتيم الأب في ظل علاقة ملتبسة تربطه بزوج أمّه الذي يربّيه على كره الفقيه حتى إذا ما قام بتهشيم رأس ابن الأخير يهرب إلى الرباط خوفًا من الانتقام. وهو شخصية متناقضة، فهو يقيم بين الناس ويرفض الاختلاط بهم، ويخرط في علاقة جنسية مع جارته أمينة بينما يعيش علاقة حب مع نهال زميلته في الجامعة تؤول إلى الافتراق. ولعلّ هذه الوقائع تدفعه إلى الغرق في التيه والشرود والتخيّل، وتجعله يكثر من الأحلام التي يقوم بتدوينها. ولعلّ هذه الميكانزمات شكّلت تعويضًا له عن الواقع وأمدّته بنوع من التوازن المفقود. وحين يفقد القدرة على ممارستها، تتردّى حالته النفسية، ونراه في نهاية الرواية مصابًا بنوع من الفصام والخلط بين الحقيقة والخيال، فيتخيّل وجود شيخ في شقّته يشاركه في معاقرة النبيذ الأحمر، ثمّ يراه في المنمنمة يعانق الأحمر، ويتحرّك مع الرسوم الأخرى فيها التي تتحوّل إلى شخصيات حية. وبذلك، نكون أمام شخصية غريبة، غير متوازنة، تعاني الازدواجية والفصام، وتختلط عليها الأمور ما يعكس الفضاء الروائي الغرائبي. يتمحور المسار الثاني حول شخصية حارس المرمى المنتحر، ويشتمل على أحداث أكثر غرائبية تدور في العالم الآخر. وتبلغ الغرابة في هذا المسار شأوًا متقدّمًا بإسناد عملية الروي إلى شخصية منتحرة وحصول المادّة المروية في أمكنة غير واقعية. ولعلّ التصدير الآخر الذي يصدّر به الكاتب روايته، المقتبس من الراوي العليم، وفيه «أنّ حياة كلّ إنسان، مثلها مثل كوميديا دانتي، رحلة ما بين الجحيم والمطهر والفردوس، وما الاختلاف سوى في ترتيب محطات الرحلة.»، يشكّل مفتاحًا مناسبًا للدخول إلى هذا المسار. ويأتي ترويس الوحدات السردية المختلفة بمقتبسات من الكوميديا الإلهية ليعزّز هذا الترجيح. بالعودة إلى الشخصية، نرى أنّ حارس المرمى الذي يُصاب بالاكتئاب إثر موت ابنته الصغيرة، يتردّى في ذهوله وصمته وشروده، ويقدم على الانتحار بصدم سيارته بقطار سريع، حتى إذا ما انتقل إلى العالم الآخر، يبدأ بروي مشاهداته الغريبة، حيث المكان غير المكان والزمان غير الزمان. فنراه يعمل في ديوان الأحلام الأعظم، ويترقّى في عمله من طابع أحلام إلى لاحم أحلام وواهب معنى، إلى ساعي أحلام، فأمين أحلام، ما يعني أننا إزاء فضاء روائي حلمي غريب. ونراه يسير مع رجل سردابي الوجه بين أجساد تائهة، في موكب يمضي قُدُمًا وينضمّ إليه أطفال وصبايا، ويسبقه بساط أحمر، يجري كلّما جرى الموكب، فيحول دون وصوله إلى غايته. هناك تُمحى الذكريات، ويتغيّر انسياب الزمن، وتتوحّد الألوان، ويتشابه الناس، ويتحرّر الحارس من الحواس المعيقة للرؤية، فيرى العالم بوضوح، وتمتد أبدية بيضاء مرعبة. ويظهر حوت لا تحدّه العين، وطفل عملاق غريق يتدافعه أقزام، وبارجة حربية تضمّ الأطفال وتلقّحهم بلقاح الوعود. فتختلط الأماكن الأخروية، وينعدم التمييز بين الجحيم والمطهر والفردوس. وفي نهاية الرواية، يستعيد حارس المرمى جوانب من حياته الأرضية، فيظن أنه عاد إلى الأرض لكنه سرعان ما يخيب ظنّه حين يرى المنطقة التي هو فيها. وهكذا، تتمظهر الغرابة في المكان، والزمان، والأحداث، والمخلوقات، والشخصيات. خطاب حديث يستخدم محمّد آيت حنا خطابًا روائيًّا حديثًا في بنيته المفكّكة، يناسب الأحداث التي لا ينتظمها منطق معيّن، فينسحب التفكيك على الحكاية والخطاب. وهو لا يُقدّم حكاية تقليدية تنمو فيها الأحداث، وتتعقّد في حبكة معيّنة ما تلبث أن تجد طريقها إلى الحل، على غرار الرواية التقليدية. لذلك، يتّسم المساران الروائيان بالأفقية والتقطّع وكسر خطيّة الزمن، ويكون علينا أن نجمع نثار الحكاية المتفرّق، على غير نظام، ونعيد تركيبه. وبذلك، يشرك المتلقي في عملية تركيب النص، ولا يقدّم له مادة حكائيّة سائغة مصادرًا حقّه في الشراكة الروائية المشروعة. في «الحديقة الحمراء»، يتعدّد الرواة، ويتبادلون الأدوار في علاقة تكاملية فيما بينهم، فنجد الراوي العليم الذي يستأثر بالمساحة الأكبر من النص، ويختفي خلفه الكاتب، ويتقاطع معه بدليل قرائن لفظية واردة في النص، ويعهد إليه بالإمساك بخيوط السرد وتنظيم العلاقة بينها. وتتعدّد مستويات اللغة، وتتنوّع بين السرد والوصف والحلم واللغة والتعليق، فنرى الأحلام إلى جانب الوقائع، وتتمّ كسر نمطية السرد بصفحتين لغويتين من لسان العرب، تأتي تعليقات الراوي الكاتب لتخفّف من حدّتهما العلمية، وترطّب جفاف التفسير اللغوي. والتعدّد، سواء في الرواة أو مستويات اللغة، يناسب البنية الروائية المفكّكة. «الحديقة الحمراء» رواية غريبة في العنوان والمتن. ولعلّ الغرابة باتت أمرًا مرغوبًا فيه، في ظلّ هذا الركام النمطي الذي تتشابه فيه الروايات، وترخي بثقلها على القرّاء، ما يجعل قارئها لا يعود من الغنيمة بالإياب. ---------------------------------- ثقافي أضيف بواسـطة : admin التقييـم : 0 عدد المشـاهدات : 1532 مرات التحميـل : 0 تحميـل هذا اليوم : 0 تاريخ الإضافـة : 24/09/2019 - 09:59 آخـر تحديـث : 18/03/2024 - 22:07 التعليقـات : 0 رابط المحتـوى : http://almustakbalpaper.net/content.php?id=55937 رقم المحتـوى : 55937 ---------------------------------- صحيفة المســتقبل العـراقي AlmustakbalPaper.net