نسرين بلوط
تفنيد المطلق في تناهي الأمور الجوهرية في الحياة، وحصر الرضا والسخط وطباع البشر من غليظي الأكباد إلى طيبي القلوب، إلى عشّاق الانصهار في مساحةٍ تسرف في الانصهار والانحسار في ذاتٍ واحدة، تقلّص مساحة الحرية، هو شعار ريلكه في رسائله التي كتبها إلى شاعرٍ شابٍ مغمور، اسمه فرانز أكسفر كابوس، وهو طالبٌ في الأكاديمية العسكرية، ويبلغ التاسعة عشرة من عمره، يهوى الشعر ويسعى للانزلاق في تيّار أحلامه الزمرّدية، فيسعى للتواصل مع ريلكه الذي كان في أوجه الذهبي تألّقاً في الشعر، فيوجهه الأخير في دربٍ فلسفي، يزخر بالحكم التي نهلها من خلال تجاربه في الحياة. جمع كابوس هذه الرسائل في كتابٍ بعنوان: «رسائل إلى شاعر شاب» بعد وفاة ريلكه، ورأى أن يستفيد منها غيره من الكتّاب والقرّاء. يصرّ ريلكه في مراسلاته لكابوس، أن يجعله ينهل من تيّار الوحدة التي تعكس بمرآتها الأخّاذة ظلال الإبداع، وينبثق عن بلّورها شعاعُ النور المعرفي العميق، فيقول: «الوحدة الداخلية أن يستبطن المرء في داخل نفسه ساعات طويلة، ولا يقابل أحدًا، وأن يكون المرء وحيدًا، كما كان يوماً وهو طفل، كان الكبار يتحركون من حوله، وهم يعتركون أشياء بدت وقتها مهمّة وكبيرة، لأنّ الكبارَ بدوا مشغولين، ولأنّ المرء لم يدرك شيئاً ممّا يفعلون». يستفيض ريلكه في شرح الكينونة الذاتية والغيرية للإنسان، وسرّ الوجود، وأهمية الإرادة البشرية في تذليل المستحيل وتقريب المحال، وتثبيت الفكرة الوهاجة في فكرٍ رائق ينأى عن الموبقات، ويجفو عن المحرمات، ويرنو للانتصارات، ويحلّق فوق هضابٍ لامتناهية من الحرية والتهالك على المعرفة، فالخيال أكثر أهمية من تدخل العقل في تجريد المرء من أفكاره الراهنة، وتحكمه في قراراته الجذرية. يصرّ ريلكه في مراسلاته لكابوس، أن لا يكون متعجّلاً للمنفعة من الشهرة، وأن لا يخال أنّه بلغ المراد من خواطره، فالإبداع الحقيقي لا يأتي من سهادٍ وأرق وتعبيرٍ متخبّطٍ بالخيال والسرعة، بل يتجلّى في الاقتراب من الطبيعة، والتعبير عمّا يرى ويعايش ويحب ويفقد. يكتب ريلكه لكابوس بأنّه بمنأى عن أيّ قيمة نقدية، ولا ينصب نفسه حكماً على كتاباته، وأن يطوّر نفسه بهدوءٍ وجديّة.نلمس الراحة النفسية التي تغلّف مضمون رسائل ريلكه إلى الشاعر المغمور، فيسرد له تأثره العميق بشخصين تركا انطباعاً عميقاً في داخله فيقول: «وإذا كان عليَّ أن أقول ممن تعلمتُ شيئًا عن جوهر الإبداع، وعمقه، وسرمديته، فلن أجد سوى اسمين يمكنني ذكرهما: ياكوبسون الشاعر العظيم، وأوغست رودين النحّات الذي لا مثيل له بين جميع الفنانين الأحياء». ينصح ريلكه الشاب بأن ينزّه نفسه عن الخطيئة، ولا يتهالك على الجذل اللحظي، ولا يستهتر بسرّ الوجود، فالوحدة تسيّره في درب الاكتشاف للروح والكون، وتجعله متخففاً من الأمور السطحية، تترقرق على جداول خياله، أعمال فنية تنبع من الغاية الوجودية في شغفٍ للمعرفة. فنراه يكتب إليه قائلاً:» إن لم يكن هناك ما يمكنك مشاركته مع الآخرين، فحاول أن تكون قريبا من الجمادات، فهي لن تهجرك، وستظل هناك الليالي والرياح التي تتحرك عبر الأشجار وفوق الأراضي، كل ما في العالم من جمادات وحيوانات مازالت ممتلئة بالأحداث التي يمكنك أن تكون جزءا منها».يدعو ريلكه الشاب للنأي عن الأحزان التي تجرف معها الإرادة وتقلّص مفعولها، وأن يجعلها تسمو به ولا تعلو عليه، ويدعوه للعزلة والتريث عندما يكون حزيناً، وأن يكون يقظاً في هدوء. ففي نظر ريلكه، الكوارث الكونية التي تصبّ جام غضبها على الإنسان والجماد والنبات، هي تحوّلات مهمّة تحدّد المصائر، تنقبض وتنخفض في خطٍّ ازدواجي، في تمايزٍ للمكنونات النفسية، وتجاوزٍ للانقباضات الروحية.لم تكن رسائل ريلكه لكابوس محض ردودٍ تلقائية وتحفيزيّة لشاعرٍ شاب يطلب العلم من أصحابه، بل كانت ركائز فلسفية تجاوز حدود المراسلة، وشملت الأحياء والأشياء، والأسرار الكونية والعلمية، ليشجرَ منها برهان وتعليل للمحسوسات والملموسات، فتتوغّل في جذور الحكمة، وتملي علينا حديث الفلسفة بشكلٍ مبسّطٍ وسهل، وتحيل الوحدة الذاوية الذابلة إلى عالمٍ كبير من الموهبة والإبداع والشمول.ريلكه شاعرٌ استنبط من الطبيعة أسرار الكون، وصاغها في قالبٍ من الحكمة والفلسفة، لتتصّل خلوته برسائل كابوس في نوعٍ من الدفق الروحي للمعنى، والدعوة للتسليم بواقعية اللحظة التي يعيشها الإنسان، وتحصين النفس بالإيمان العميق الذي لا يتيح الوقت لترقيع الذكرى، بل يلمّعها بالصفاء، فيقول في جملةٍ اختصرت ارتحال قلبه بين الفكر والإحساس: «يجب أن تعيش الحياة لأقصى حد، ليس بناء على كل يوم، ولكن بناء على عمق كل يوم». |