نجوى بركات ثمّة حجر عالقٌ في بلعومي. حجارة وحصى ودبابيس أبصق الكثيرَ منها، إنما تبقى آثارُها ويدوم صدأُها. كم ينبغي لي أن أنأى، وما هو مقدار العزلة الضرورية لكي أحتمي من هذا الوباء؟ ليس كورونا هو شاغلي. إنه وباءٌ من نوع آخر، يسمّم العقل، يُفسد الروح، يضرب الأنسجة العصبية، يقتل الطاقة التي فينا ويزيحنا عن المشهد العام. كالجذام. أنت تصبح منبوذا بين الجميع. لماذا لم تصبك اللوثة إياها، وما سبب مقاومتك المستميتة هذه، أيها «الفالح» الذي لم يسمع بك أحد، ولا تعرفك إلا قلّة قليلة لا يعدو عددُها عددَ الأصابع؟ ضع رأسَك بين الرؤوس وامشِ بين القطيع. القطيعُ ملتحما، يحميك. دَعْ أمرك له، استسلمْ والتحمْ لتصبحا جسمًا واحدًا. لكن تذكّر، إن أنتَ أعقتَ حركتَه، سيرَه، داسك بحوافره وانطلق من دون مبالاة. أجلسُ في بيتي، ولا أهتمّ إلا بشؤوني. شؤوني صغيرة لا تُقلق أحداً ولا صوت لها أو فحيح. شؤونٌ صغيرة جدا قد لا يُرى بعضُها حتى بالميكروسكوب. ومع ذلك، ثمّة ما لا يُبتلع ويبقى عالقًا في الحنجرة يُعيق التنفّس والكلام. أقول لنفسي: يا نفسي، اشربي كوبَ ماء، فأقوم وأشرب كوبَ ماء. امضغي علكة، فأمضغ علكة. ضعي موسيقى وقومي بحركاتٍ تلهي وتُبهج، فأمتثل، إلى أن يفاجئني معطوبٌ آخر يقفز إلي من شاشة الكومبيوتر عبر ما ينشره «أصدقاءٌ» افتراضيون أتوهّم أن ثمّة ما يربطني بهم ولو من بعيد. نَعْيُ أشخاصٍ لا أعرفهم أخجل ألا أعزّي بهم، وإن فعلتُ مسايرةً، فلأن الأمر لا يؤذي ولا يشكّل معضلة ضمير أو أخلاق. صور أطفال ولدوا، ويكبرون، جميل. إصدارات كتب جديدة وتهاني بالمئات، ولست أدري فعليا كم من المهنّئين سيقتنون الكتابَ ويقرأونه. إنهاء مخطوطة ما ونشرها غبطةٌ لا يمكن أسرها، أعترفُ، إنها تفيض. ثم يأتي ما لا يُحتمل من مقالات وتعليقات حول أهمية عمل فني أو أدبي ما. أخيرا، مثلا، قرأت مقالةً صدمتني بخوائها. الصادم نشرها في مجلة أدبية محترمة، واحتلالها ستّ صفحات. أجل، ستّ! قيل لي إن كاتبها «طيّب»، وهو يحبّ الروائي الذي كتب عنه. قيل لي أيضا إن الكاتب المعنيّ موهوب، ويستحق هذه اللفتة الزاخرة بـ»العواطف الأدبية». نشر الكاتب هذ المقالة على صفحته، واعتداده بها مدعاة للتساؤل. إنما، الكتّاب أيضا يحتاجون الدعم، وإن أتى عشوائيا وكيفما اتفّق. موهبة الكاتب ليست هي المسألة. المقالة التي تقول إن الكاتب موهوب يُتوقع له نيل جائزة نوبل للآداب، ولا تضيف شيئا عن مبرّرات هذا «التوقع» هي المعضلة. المقالة ليست ستاتوس على صفحة قارئ معجب لا يمتهن النقد أو الكتابة. ستّ صفحات لكي تقول فرادة الكاتب وعبقريته، دونما ذكر أي دليلٍ أو برهان، سوى انتشاره، ونيله جوائز تقديرية، وعدد أعماله المتزايد وترجمتها، وسفره إلى عدة بلدان، وعلاقته الجيدة بالداخل والخارج معا! |