محمد الربيعي لا ريب في أنّ الذي يلعب دوراً في تطوير النّاس وتربيتهم وتكميلهم أن يكون متقدّماً عليهم في السلوك وحائزاً على الملكات العالية التي تؤهله للقيام بوظيفته ومهمّته، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولذا فعند البحث عن دور الزّهراء (عليها السلام) في الأخذ بيد البشريّة إلى ذروة الكمال لا بد من ملاحظة أمرين: الأوّل:- إنّ فاطمة الزّهراء (عليها السلام) قد وصلت إلى قِمّة الكمال الإنساني: وهو أمرٌ متّفقٌ ومسالمٌ عليه بين المسلمين، ويظهر لأدنى مراجعة إلى المصادر الإسلامية لدى الفريقين، ونطقت بمضمونه جملة من الروايات، منها ما ورد عن النّبي (صلّى الله عليه وآله): «يَا فَاطِمَةُ أَبْشِرِي فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَعَلَى نِسَاءِ الإِسْلامِ وَ هُوَ خَيْرُ دِينٍ». وقيل للإمام الصادق (عليه السلام) قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، أي سيّدة نساء عالمها؟ قال: «ذاكَ مَرْيَمُ، وَفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ». ومن جهة بلوغها القِمّة وعزازة النّظير لم يكن لها كفوٌ خليقٌ بها من حيث الكمال -بعد الخاتم (صلّى الله عليه وآله)- إلا الأمير (عليه السلام)، فقد جاء في الفقيه: وقال (عليه السلام): «لَوْلا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فَاطِمَةَ لِعَلِيٍّ مَا كَانَ لَهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كُفْوٌ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ». الثاني:- إنَّها (عليها السلام) قدوة للنّساء والرّجال معاً: فلا يفهم من سيادتها لنساء العالم أنّها (عليها السلام) قدوة لهنّ فقط، بل الاستنارة بهديها يحتاجه الجميع، ويستفيد منه النّساء والرّجال على حدّ سواء، كما أنّ درب السعادة والكمال في الإسلام ليس مقصوراً على جنسٍ دون آخر، ولا يتفرّع إلى شعب وأجزاء، وإنّما هو عامٌ للنوع الإنساني، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، {يَا أَيُّهَا النّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. ويمكن اكتشاف جامعيّة هداية الزّهراء (عليها السلام) لكافة النّاس أيضاً من خلال الروايات الخاصّة، من بينها ما عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن محمّد بن النّعمان عن سلاّم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا…} قال: «إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ عَلِيّاً (عليه السلام) وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَجَرَتْ بَعْدَهُمْ فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ثُمَّ يَرْجِعُ الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ فِي النّاس فَقَالَ: {فَإِنْ آمَنُوا} يَعْنِي النّاس {بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ} يَعْنِي عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالأَئِمَّةَ (عليهم السلام) {فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ}». محل الشاهد : لا غرو أنّ خلْق الله تعالى لعباده رافقه تكليفٌ ودورٌ مناطٌ بكلّ فرد منهم، ويصبح الجميع على إثره مسؤولين عنده سبحانه، وهو تكليفٌ عامٌ وشاملٌ على طول التاريخ، إلا أنّ هناك مجموعة من البشر -نظراً لعلم الله تعالى بحالتهم المعنويّة وصبرهم وطاعتهم المنقطعة النّظير وأهليّتهم لأداء المسؤوليّات الثّقيلة والنوعيّة- أناطَ بهم دوراً خاصّاً زائداً على مسؤوليّاتهم العامّة، فاصطفاهم واختارهم من بين خلقه لتحمّل هذا الدور، ليغدوا من خلاله حُجَجَاً منه على عباده، وبما أنّ الزّهراء (عليها السلام) واحدة ممّن نال هذا الشّرف الرّفيع، يصبح من اللازم الوقوف على ماهيّة اصطفائها وهدفه، لارتباطه الوثيق بتكامل النّاس وهداية قلوبهم، فالاصطفاء الإلهي له أنحاء وأغراض متعدّدة، يمكن تصنيفها -بزاويةٍ ما- إلى أربعة أصناف: الصنف الأوّل:- اصطفاء النبوّة: وهو للذين بعثهم لتبليغ رسالاته وبيان أحكامه وتهذيب النّاس، يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}. الصنف الثاني:- اصطفاء الوصاية أو الإمامة: وهو للذين يتابعون وظيفة الأنبياء (عليهم السلام) ويخلفونهم ويكملون مسيرتهم، يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…}. الصنف الثالث:- اصطفاء المهام الخاصّة: وهو للذين يبعثهم الله تعالى لوظيفة معيّنة وظرف محدّد، كقيادة المجتمع أو العسكر وأمثال ذلك، يقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. الصنف الرابع:- اصطفاء الولاية والحجّة الكبرى: وهو لمن لهم حقّ الولاية على النّاس -غير الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)- ويُذَّخَرون لأمرٍ إلهيٍّ كبيرٍ وخطبٍ جسيمٍ ليكونوا آية أخرى يتم بها مشروع النّبوّة والإمامة، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}. وتمتاز جميعها بأن أفرادها مؤيّدة ببراهين ساطعة وآيات باهرة، وذلك ليحصل بهم الوثوق والتصديق، وتتم حجّتهم على النّاس. واصطفاء السيّدة الزّهراء (عليها السلام) هو من الصنف الرابع، لأنّها بالتأكيد ليست نبيّاً ولا إماماً، لكنّها حائزة على مقام الولاية، وهي واحدة من الحُجَج المفترضة الطاعة، وتتحلّى بصفاتهم، كالعصمة والعلم اللدني الخاص، والجاه الرفيع والمنزلة المقرّبة، وبعبارة أخرى: لها ما للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من مقامات سوى الاختلاف في الوظيفة والدور، والدليل على ذلك: ما أُسلف من وصولها إلى ذروة الكمال الإلهي وأنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، ونزيد عليه بما ورد بعِدّة مضامين عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «يا فاطمة إنّ الله تعالى لَيغضب لِغضبك ويرضى لِرضاك»، وطبيعيٌّ أنّ من كان هذا حالها أن تُحسب من المقرّبين والصدّيقين، وهو كافٍ أيضاً للدلالة على عصمتها؛ لأن رضا الله تعالى وغضبه يستحيل أن يقترن ويجتمع بنحوٍ مطلق مع رضا وغضب من يُخطئ أو يتّبع هواه وما شاكل ذلك، وبالتالي فهي تعبيرٌ آخرٌ عن العصمة. |