فيما كانت الناس تحتفل مبتهجة , و هي ترى بأم عينها غير مصدقة , إن رمز النظام السابق قد تهاوى في ساحة الفردوس , و إنتهت بنهايته أيام الحصار و الظلم و الجوع , كان الحاج (أبو محمد ) يتساءل مع نفسه هل سيبقى راتبي التقاعدي (24) ألف دينار أم إن ثورة التاسع من نيسان المجيدة ستنظر في أمري و أمور المتقاعدين , و تعوضنا عن أعوام الذل و الحرمان ؟!] .كان ذلك همه الوحيد و شغله الشاغل , و ما هي إلا سنوات قليلة من الصبر و الأنتظار , إلا و تحقق حلمه , و تضاعف راتبه عشر مرات , من 24 ألف دينار الى (240) ألف دينار , و هذا الرقم بالنسبة له أقرب الى الخيال منه الى الحقيقة , و كادت فرحة المفاجأة تقضي عليه لولا اللطف الرباني , حيث لم يصب الرجل إلا بغيبوبة طارئة , يسميها الأطباء (إغماء السعادة) , عادة ما يتعرض لها الأنسان عندما يلتقي حبيبا ً غائبا ً , أو يسمع وعدا ً حكوميا ً يسبق الأنتخابات ! إستعاد أبو محمد وعيه , و مضت بضعة أشهر على فرحة الراتب التقاعدي الجديد , و الزيادات المذهلة التي طرأت عليه , و بدأ يتعامل مع تفاصيل الحياة اليومية و المعيشية بصورة واقعية , و تنبه الى إنه يعاني من ضائقة مالية شبيهة ٍ بضائقة الأيام السود التي عانى منها في عهد الدكتاتورية المقيت ,فقد تراجعت البطاقة التموينية , و إختفت أغلب مفرداتها مثل الشاي و الحمص و العدس و الملح و الفاصوليا ..الخ , مما إضطره الى تعويض النقص من السوق بأسعار تجارية مرهقة , من جانب آخر قام المؤجر برفع بدل إيجار الغرفة التي يسكنها مع أسرته الى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه , كما لاحظ الرجل إن سعر قنينة الغاز أصبح ستة آلاف دينار , في الوقت الذي كان سعرها مئتين و خمسين ديناراً , أي تضاعف السعر أربعا ً و عشرين مرة , بينما إرتفع سعر اللحم الأحمر من سبعة آلاف دينار إلى أربعة عشر ألف دينار , و هذا يعني إنه إرتفع بنسبة (مئة بالمئة) , على الرغم من إن الحاج و أسرته نسوا طعم اللحم الأحمر منذ ربع قرن , كذلك وجد الرجل بحكم الضرورة , إنه غير قادر على الوقوف خارج حركة التطور , أو بعيدا ً عن متطلبات الحياة الجديدة , و لهذا بات ملزما ً بدفع (45)ألف دينار شهريا ً لمولدة الكهرباء الخارجية , و هي من الأجور الحديثة على ميزانية البيت , و إن يدفع من بين الأجور الحديثة مبلغ (35) ألف دينار في الحد الأدنى أجوراً لكارتات الموبايل , و بعد أن قام بعمليات حسابية مطولة , و أعاد الحساب مرتين و ثلاثا ً , و أجرى مقارنة دقيقة بين راتبه التقاعدي الكبير (240 ألف دينار) , و بين عموم المصروفات البيتية و أجور المولدة و الموبايل و الأيجار و النقل و الطبيب و الملابس , إكتشف لماذا لا يكفيه الراتب الجديد مع إنه عشرة أضعاف راتبه القديم , و لماذا يجب عليه الأقتراض بأستمرار , مثلما كان يفعل منذ عشرين سنة , و لماذا يجب أن يبحث عن عمل كما كان يفعل في السابق , و توصل في خاتمة المطاف الى يقين ثابت و مؤكد و مجرّب , و هو إن الدكتاتورية (المكروهة ) و الديمقراطية (المحبوبة) , تختلفان في سياسة الحرية و التعبير عن الرأي , و تلتقيان في سياسة تجويع المواطن !! |