إنها الحرب المعلنة في حلبات التنافس المينائي منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا, حرب تجاهلها الكبار في غمرة شعورهم بنشوة العظمة, فتسلل إلى حصونهم الصغار من بوابات المنافذ البحرية المفتوحة على بحار الله الواسعة.
حرب باتت تهدد المصالح الاقتصادية المصرية, وتستفز المواقع المينائية العراقية, بدأت منذ اللحظة التي فكر فيها العراق ببناء ميناء (العراق الكبير) في التسعينيات بمشروع تقدمت به شركة إنماء الخليج التي يديرها ورثة العراقي المغترب (حنا الشيخ), وتفجرت منذ اليوم الذي فكرت فيه مصر بتوسيع قناة السويس وتأثيثها برادارات أنظمة المراقبة الالكترونية, فتحركت الكويت بعد عام 2005 لتباشر بتنفيذ ميناء (بوبيان), وتضعه في المكان المقابل للموقع المقرر لإنشاء ميناء (الفاو الكبير), على ان تضرب أكثر من عصفور عراقي بحجر واحد, لتقطع الطريق على موانئ العراق في أم قصر, وتقطعه عن خور الزبير, وتغرز خنجرها في خاصرة ميناء الفاو, وتعطل موانئ شط العرب.
أما الرئيس المخلوع حسني مبارك فما أن سمع بفكرة ميناء الفاو الكبير, أو ميناء العراق الكبير حتى أطلق العنان لتصريحاته النارية المتشنجة, التي أبدى فيها احتجاجه على المشروع جملة وتفصيلا, فقال كلمته الشهيرة: ((ده خراب بيوت)). ثم دارت الأهلة دورتها, ورحل حسني, ونفذت الكويت مشروعها بدعم عربي مطلق, وبتأييد من بعض الأطراف العراقية, ورفع الرئيس محمد مرسي راية الترشيح لخوض معركته الانتخابية ضد خصمه الفريق أحمد شفيق, وأعلن عن رغبته الجامحة لتعميق قناة السويس وتوسيع ممراتها الملاحية لاستقطاب المزيد من خطوط الشحن البحري, وتحقيق المزيد من الموارد المالية بالعملات الأجنبية الصعبة, فأعلنت حكومة الإمارات العربية المتحدة عن وقوفها بوجهه, ودعمها للفريق أحمد شفيق في معركته الانتخابية, فكانت فكرة تطوير قناة السويس هي الدافع الأول لعداء الإمارات لنظام الرئيس مرسي.
فاز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة, وسيباشر بتنفيذ أحلامه الاقتصادية, ولم يعلم عامة الناس أن تطوير القناة وتأهيلها ملاحيا ومينائيا سيهدد مستقبل الموانئ الإماراتية ويخرجها من الخدمة, باعتبارها قائمة على تقديم الخدمات اللوجستية للسفن التجارية والناقلات العملاقة, ما جعلها تحتل مواقع الصدارة, وتستحوذ على السفن الماخرة في المحيط الهندي والبحر الأحمر, بعد أن سجلت انتصارا باهرا على موانئ عدن, فسحبت البساط من تحت أقدامها, وألحقت بها هزيمة منكرة, وبالتالي فان تطور النواحي الخدمية في السويس ومرافئها, وتمتعها بموقعها الاستراتيجي بين الموانئ الأوربية والموانئ الآسيوية سيضمن لمصر تبوأ مركز الصدارة, ويلغي دور الموانئ الإماراتية, أو يصيبها بالشلل الجزئي, ناهيك عن احتمال تعطل موانئ دبي بالكامل بمجرد إطلاق الشرارة الأولى في الحرب المبيتة ضد إيران, عندئذ ستكون دبي هي الأكثر تضررا لأنها تفتقر للموارد الطبيعية, وتعتمد على الأنشطة المينائية الخدمية الفائقة, وهذا هو سر العداء الإماراتي لمصر, فلو تم فعلا تطوير القناة بالشكل المثالي فإنها ستوجه ضربة قاصمة لموانئ الإمارات على وجه العموم, وموانئ دبي على وجه الخصوص.
ثم إن إمارة دبي ترتبط بإيران بعلاقات اقتصادية متينة, وإن مصر ستكون هي الرابحة اقتصادياً من أي عدوان عسكري تشنه أمريكا وحلفائها ضد إيران, إذ يحتمل أن تنتقل العلاقات الإيرانية من دبي إلى مصر, بمعنى أن الإمارات هي المتضرر الأول بعد اندلاع المعارك المحتملة بين ضفتي مضيق هرمز, ما يؤدي إلى تغييب الغطاء الجوي الأمريكي عنها عمداً (مؤقتاً), فتصبح مهددة, وقد تكون عرضة للتدمير, لتأتي الشركات الأمريكية بعد الخراب المتوقع, فترمم ما أحرقته الحرب بالأموال الإماراتية المودعة في البنوك الأمريكية. بات من المسلم به أن تطوير قناة السويس, والارتقاء بمستواها الملاحي والخدمي إلى مستويات المفاضلة المعاصرة سينقل جمهورية مصر العربية نحو الأفضل, ويجعلها في مصاف البلدان المتفوقة اقتصادياً, ويقضي على الآمال الخليجية, الأمر الذي دفع الإمارات لفتح بوابات التنسيق والاستثمار والسعي نحو تشجيع الحكومة العراقية للإسراع في تنفيذ ميناء الفاو الكبير, فتقدمت عام 2006 من خلال شركة حنا الشيخ القابضة بمشروع جبار في محاولة جادة للاستفادة من موقع البصرة الاستراتيجي, باعتبارها تمثل جسر العالم القديم, الذي ترتبط به القارات الثلاث (أوربا آسيا أفريقيا), لكنها لم تحرز أي تقدم في هذا الاتجاه, وتجدر الإشارة ان موانئ (الأُبِلَّة) العراقية القديمة كانت تقف في منتصف طرق القوافل البرية والبحرية, وان موانئ البصرة الحديثة سجلت تفوقا مينائيا مذهلا في ستينيات القرن الماضي, فازدهرت في زمن مزهر الشاوي ازدهارا رائعاً, حتى تفوقت على كبريات الموانئ العالمية.
أما لماذا لا تفكر الإمارات باستثمار أموالها في ميناء (مبارك) الكويتي على الرغم من الفرص الكثيرة المتاحة, فيعزا ذلك إلى قناعتها بأن هذا الميناء ولد ميتاً, ولن يكون باستطاعته العمل بمفرده ما لم تكون له امتدادات برية عبر الأراضي العراقية, وما لم يلق الدعم والمؤازرة من الحكومة العراقية, التي يفترض أن تمنح ثقلها كله لموانئها الوطنية, وهذا يفسر إدراك الإمارات لعدم جدوى الميناء الذي شيدته الكويت فوق بوبيان خارج الخطوط البرية الصحيحة, وخارج الربط السككي (خطوط السكة الحديد), على اعتبار إنه سيظل بمعزل عن البلدان الأوربية, ولن يرتبط بها إلا من خلال العراق, وبالتالي فإن دوره سيقتصر على السفن المتوجهة إلى الكويت.
ختاما نقول: إنها واحدة من الحروب المستعرة بين البلدان العربية, وسيكون الفوز فيها لمن يحسن التصرف, ويسارع إلى استثمار الفرص المؤاتية في الوقت المناسب, وهذا الميدان يا حمدان. |