إيضاح أولي: مفردة (الشقة ـ بكسر الشين) يراد بها المزاح، و(فلان يتشاقه) اي يمزح، وهي من اللهجة العامية العراقية، وليست من فصيح اللغة، ولذلك قد يجد القارئ العربي صعوبة في فهم معناها الدقيق. في عام 1985، تم إلحاقي بأحد قواطع الجيش الشعبي، وتوجهنا الى قاطع الطيب في منطقة تدعى (الزبيدات)، إنها الجبهة إذن، وهي الحرب التي كنا نراها في الأفلام فقط، ثم بدأنا نسمع أخبارها في البيانات العسكرية اليومية وشهداؤنا وقتلاهم وأعداد الاسرى والراجمات والنمساوي والغارات الجوية وموطئ القدم و.. نحن نتلذذ بطعم الموطا او الجلوس على ضفاف النهر مع حبيباتنا، الآن أدركنا ما هي الحرب، انها ليست فيلماً ممتعاً أو بيانا عسكريا، بل هي هذه الحياة الجديدة التي نعيشها، حين تمر بنا (ساعة) تعادل خمسين عاما، وتأخذ خمسين عاما من أعمارنا، لا ندري في اي ملجأ نرمي أنفسنا، وأية خوذة نعتمر وأي تضرع الى الله نتضرع، ومن حولنا يتساقط وابل من الصواريخ ومقذوفات المدافع والدبابات وآلاف الشظايا، وليس فينا من هو دون الأربعين سنا، و(ابو لؤي) ـ اكنيه بكنيته احتراما ـ رجل له من العمر 62 سنة (مدرس في احدى الثانويات) ينتظر كل يوم بخوف شديد وصريح ومعلن ـ ربما كنا اشد خوفا منه، ولكننا نتظاهر بالتماسك عودة المقاتل (عادل) المكلف باحضار (الموقف) اليومي من مقر اللواء الذي نخضع لأوامره، ونعمل ضمن صلاحياته، والموقف عادة، اما ان يكون اعتياديا، أي ان اجواء الجبهة هادئة، و(الحيطة والحذر)، وهذا الموقف لا خوف منه كذلك، واما ان يكون (انذار جيم واتخاذ اعلى درجات الحيطة والحذر، وعدم مغادرة الملاجئ) والموقف الثالث هذا، هو الذي نخشاه، ففي الغالب يحدث فيه هجوم عليهم او علينا، وكان المقاتل عادل، كثير الميل الى المزاح مع (ابو لؤي)، فيقول له ولنا: (اليوم انذار جيم !) وهو الامر الذي يرعب الرجل رعبا حقيقيا، الى الحد الذي يختفي فيه الدم من وجهه ويتلكأ في الكلام، عندها يضحك عادل ويطمئنه (عمو ابو لؤي .. والله العظيم أتشاقه وياك، الموقف اعتيادي)، عندها يسترد الرجل حالته الطبيعية، ويقول له (حتى بالشقة، ما أريد اسمع إنذار جيم)، وكنا نضحك، ونشعر بالاطمئنان، لان الليلة ستمر بسلام!! لي زميل صحفي، عزيز على قلبي، يناصر الحكومة بتعصب غريب، ويعتقد -وهو حرـ إنها قدر العراقيين الجميل ويغضب بعنف لو قال له احدهم، انها اخطأت في الموقف الفلاني، ويبحث لها عن ألف تبرير، حتى لو انها هي التي اعترفت بالخطأ، ولهذا السبب كان الزملاء يناكدونه من باب المزاح، ويقولون له: ان فشل الحكومة في الملف الامني وهروب السجناء، وملفات البطالة والكهرباء والخدمات يقتضي منها ان تكون شجاعة وتقدم استقالتها، فتثور ثائرته، ويرد عليهم (حتى بالشقة ما اقبل احد يتحدث عن استقالة الحكومة)، وكنا نضحك ونقول له: اطمئن لان الحكومة لا تمتلك مثل هذه الشجاعة!!
|