هتف يائسا منتحبا بأنه سيكرر هروبه, ولكن هذه المرة من نفسه ومن وطنه ومن النخبة التي ناضل معها في الغربة.. سيعود الى المنافي التي سيختارها ويعلن انه كافر بكل ماضيه الذي انجب هذا الحاضر الضحل... ففي مهمته الاخيرة في ذاك الميدان الحيوي لم يكن يصدق ما يسمعه ويراه... وكان عليه ان يطلق صوته المتعجب من الصدمة والذهول طوال الأسبوعين الماضيين، فحتى في اكثر المجتمعات والدول فقرا وتخلفا يصعب تصديق تلك المشاهد المعبرة عن الفوضى والفساد والتسيب وهيمنة الأمزجة.. وان هناك من يتقصد التغني بقيم الرموز والابطال ويعمل نقيضها.. إلا ان بلادة وبهيمية هذا الصنف تعني انه يعبر عن طبعه وضيق افقه...ولهذا فان المضي وراء هذا الصنف مضي الى أبشع المهالك. هذا العراقي الذي هرب من قبل مع نقاء وعمق وأصالة ذاك الوقت.. بل ومع تلك الالفاظ والتعبيرات الشعبية الصادقة وظلت على لمعانها في مجتمعات اوربا لا تلوثها مستجدات الثقافة الضحلة ومصطلحات السياسة المرابية, لم يعد هذا العراقي ليفهم ما يجري, فيتساءل: ألهذا هربنا, وتغربنا وحلمنا بعراق يضيء من داخله وخارجه, ويتجلى في ربوعه حلم الانسان الخالد؟؟ أهذا الذي عارضنا لاجله؟ رشوة, مساومة بين زبون وبقال, غبن, تحيز, محاباة ...اقصاء, تهميش... تهم وإدانات جاهزة.. لا شيء في مكانه المناسب, ولا احد يدري بأحد... وان هذا العراقي عندما سيكرر هروبه فليثبت لنفسه فقط انه مصاب بالخيبة والغثيان, والا فان احدا لن يدري او يلتفت اليه ويفتقده ,فلا احد يدري باحد ...فبؤرة الانتباه إرضاء الغرائز, واشباع الرغبات وملء العيون المجبولة على عدم الامتلاء ...وستكون الحرب الاهلية ابسط الخيارات لكي يحافظ الرعاع على الدنيا التي تدفقت عليهم من ابواب الطائفية بمختلف تسمياتها ... وهو قدر البلدان والمجتمعات التي تقع بقبضة اكثر افرادها انغلاقا وبلادة وجشعا ..وانها لعنة ووباء لا يمكن التخلص منها الا بنيران هائلة ..ولا اهول من الحرب الاهلية, خصوصا بالنسبة للعراق ومواصفاته ...علما أن العراق وحده الذي لا يحق له ولا يناسبه ان يخطأ بمثل هذه الحرب.. ربما هو انفعال جميل وخلاق لهذا العراقي الأصيل وعبر عن شحنته الانفعالية وأفرغها وتخلص منها بهذا النحيب والإعلان الفاجع, الا انه بمعنى قد لا يصل البعض ولكنه يصل التاريخ ويصل قاعات احكامه. من متطلبات دخول العصر الاولية هي الديمقراطية... والدمقراطية بحاجة الى ثقافة كافية, وضبط للنفس والى سيادة مبدأ المواطنة.. والا كانت الفوضى, واول ضحايا الفوضى هم الافاضل, لا الاشرار الذين سيزدهرون ويسودون , ثم أن الحقيقة ستنظم لضحايا الفوضى ..ولا احد ينكر ما يعيشه البلد من فوضى وضياع ثروات ...ولا يستطيع من عانى وتعذب وتغرب وقاسى برد المهاجر ان يرى البديل بهذه الصورة ..فهل يفكر بتكرار الهروب, ولكن ممن؟ المحنة, انه على قناعة بأغلب الرجال الذين عايشهم سنوات المعارضة, فمن هو الذي رسم الواقع اذن؟؟ من قاد العراق إلى هذا الظلام في التعامل والانحياز والفساد؟ وهل هذا كله يعني ان العراق يمضي الى قدره مثل سهم ..وان من الساسة من هو تحت تأثير مخدر من الكراهية؟؟
|