من يأخذ ولاية أمر العباد، ويحملها على عاتقه، يضع نفسه أمام مهمة أعسر من عسر الولادة، لا يحسد عليها، ولا يتمناها والد والده، ولاحبيب لحبيبه، لأنه سيكون في مواجهة مسؤوليتين، الأولى في (الدنيا)، حيث تحاسبه الناس على الصغيرة والكبيرة، وعلى مئة قضية وقضية، لعل في مقدمتها : هل تصرف ببيت مال الأمة، كما يقتضي لوالي الأمر أن يتصرف، فأنفقها بالحق والعدل وعلى خدمة الشعب، أم تعامل مع هذا المال وكأنه أرث أبويه أو تركة أجداده، يأخذ منه لنفسه ويدخر وينفق ما طاب له الإنفاق، ويوزع على أهله وعشيرته، ومقربيه ما شاء من الهبات والعطايا بيد مبسوطة سخية كريمة، وكأنه ينثر الدنانير من جيبه في ليلة عرس ومباهاة، ويوزع على الأمة بالقطارة ويده مغلولة الى عنقه، وكأنه صاحب فضل أو منة! مات فيصل الأول ملك العراق ولم يجد عينيه ما يكرم به ضيفا من ضيوفه غير ساعته اليدوية، ويوم أراد إجراء عملية جراحية في الخارج، وقف عاجزا لأنه لا يمتلك أجور السفر والعلاج، فطلب (سلفة) من بيت مال الأمة مقدارها (80) (ثمانون دينارا) تم استقطاعها من راتبه الى آخر درهم، ومات فيصل الثاني ملك العراق ويده بيضاء، لا ثروة خلفها من بعده ولا بستان ولا قطعة ارض سكنية، ومات نوري السعيد رئيس الوزراء وأشهر ساسة العراق، وهو غير قادر (كما ذكرت جريدة الصباح) على شراء (كيلو زعرور)، ومات عبد الكريم قاسم وطعامه ينقل بالسفرطاس من أسرة شقيقة الى وزارة الدفاع، ولم يعثروا في جيب بدلته العسكرية على أكثر من دينارين أو دون ذلك، وغادر عبد الرحمن محمد عارف السلطة، وهو يقترض من زملائه في الحكومة حتى يتدبر أمور معيشته، ومات صدام حسين وبيت مال الأمة بين يديه وتحت تصرفه، ينفق منه ويأخذ ويدخر ويشتري الضمائر ويبني قصوره الرئاسية، كما يحب ويشتهي، ولم يبق وراء هؤلاء المسؤولين من أولياء الأمر سوى حساب الناس وكلمة التاريخ ! المسؤولية (الثانية) أقسى وأصعب، أنها (الآخر)، يوم يقف ولي الأمر بين يدي رب العزة، فيسأله (يا عبدي الم تكن تنتظر على أبواب الأغنياء عساها وجبة طعام مما يتصدقون) (نعم يا مولاي) (الم تسألني أن أرزقك عملا فاستجبت؟) ..(نعم يا مولاي) (الم تنذر عبادة خالصة لوجهي لو بلغت منزلة كبيرة بين الناس ووهبتك أعظم منزلة حتى وليتك أمر العباد) (نعم يا مولاي، وقد وفيت بنذري) (وهل تعبدني ثم لا تعدل بين العباد؟) (عفوك يا مولاي فوق العفو، ورحمتك وسعت كل شيء) (وهل عبادتي أن تأتي المسؤولية وأنت لا تملك شروى نقير، ثم تفيض خزائنك بالدنانير) (عفوك ورحمتك) (كيف تقرأ كتابي وتغض الطرف عنه، وكيف جمعت بين طاعتي وبين الظلم والمال الحرام) (عفوك ورحمتك) (امتحنتك ففسلت، وأكرمتك فجحدت) (عفوك ورحمتك) (فان عفوت عنك فهل يعفو الناس، ولهم في ذمتك دماء وقهر وحقوق) (أتوسل إليهم عسى أن ترق قلوبهم) (وهل استمعت يوما الى توسلاتهم أو رق قلبك؟!)، ومن فضائل الآخرة أن أولياء الأمور غير قادرين على الكذب والمراوغة والتضليل والتهرب من المسؤولية كما يفعلون في الدنيا، لان الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهكذا يموت ولي الأمر الطالح فتلاحقه لعنة الناس والتاريخ وتفتح جهنم أفواهها مستقرا له، ويموت الصالح، فيخلد الناس والتاريخ ذكره، ويبتسم له وجه الرب وتستقبله جنات الخلد بالحفاوة.. فهل يتعظ ابن ادم؟!
|