عبد الله العراقي، رجل من سكان محلتنا الشعبية، جاوز الستين من عمره، لم يحصل على قدر يذكر من التعليم، باستثناء شهادة الدراسة الابتدائية من مركز محو الأمية، تزوّج في سن متأخرة وأنجب طفلين، يعيش على ما يحصل عليه من أعمال حرة هنا وهناك، قبل أن يفتتح دكانا صغيرا من بيته، يدر عليه ما يسد اللقمة وحاجة العيال. كان الرجل منذ عرفناه إنسانا وديعا مسالما، ملتزما بفروض الدين، لا يعرف الكذب ولا الخداع، ويتحلى بخلق نبيل ويد كريمة على فقر حاله، وقلب طيب، غير أن ابرز ما يميز شخصيته، هي تلك البراءة الطفولية والسذاجة المفرطة، وربما لهذه الصفات مجتمعة، كان أبناء المحلة يحبونه ويحترمونه، ولكنهم يستغلون سذاجته في بعض الاحيان فيدبرون له مقالب غير مؤذية، لغرض المزاح والمرح، وكان أي مقلب مهما كان مكشوفا, (يمر) عليه ولا ينتبه له، ومع ذلك لا يزعل ولا يغضب، ويضحك على غفلته! بعد 2003 حدث أمر مفاجئ، لم يتوقعه احد منا، بل إن عبد الله نفسه فوجئ به، فقد حصل على وظيفة مرموقة في إحدى دوائر الدولة، يحلم خريج الجامعة بالحصول عليها، والحقيقة فان العراقي لم يخف علينا، أن قريبا له متنفذا في السلطة وراء تعيينه، مع انه بدون مؤهل دراسي، واشهد ان الموقع الوظيفي المرموق لم يغير شيئا من طباع الرجل الكريمة، ومن سذاجته وطيبته وكرمه وتواضعه، باستثناء لحية خفيفة وبضعة خواتم تزين أصابعه، وكان ابناء المحلة يمازحونه، ويقولون له (انت من احباب الحكومة)، على غرار (أحباب القائد) التي كانت سائدة في النظام السابق، وكان الرجل يواجه دعابتهم بالضحك، ويرد عليهم بأسلوب جاد (إني فعلا من أحباب الحكومة والمدافعين عنها، ومصيري ارتبط بمصيرها، لأنها حولتني من صاحب دكان لا يزيد دخله الشهري على 500 الف دينار الى موظف يزيد راتبه الشهري مع المخصصات على 3 ملايين دينار)، وكانت الناس تحب فيه صراحته وصدقه وعدم ترفعه عليهما، وربما أحبته اكثر لانه لم يبخل عليها بوساطة او تقديم عون او مساعدة! ذات مساء ونحن نجلس في مقهى الطرف على عادتنا اليومية، والعراقي معنا (لم ينقطع عن ارتياد المقهى)، جرى حوار ساخن بين عبد الله وبين احد الحضور ويدعى (ابو عمار) الذي وجه نقدا عنيفا للعملية السياسية وأطرافها الفاعلة قائلا (كان العراق في التاريخ يسمى ارض السواد، فماذا فعلتم يا أحباب الحكومة؟ لقـــــد تحول على أيديكم الى نساء متلفعات بالسواد، الى لوحة سوداء رسمتهــــا جراح الأرامل والثكالى)، ورد عليه عبد الله (انت تدين نفسك بنفسك، لان الحكومة حافظت على اللون الأسود، كما كان في السابق هو اليوم كذلك، فلماذا انت زعلان ؟!)، ولم نتمالك أنفسنا، ضحكنا وضحك ابو عمار، وضحك عبد الله حتـــى دمعت عيناه، وهو لا يدري حقاً، لماذا كنا نضحك!!.
|