اعرف انه ليس من اللياقة ولا الادب، ان اعاتب رجلا بلغ الثالثة والتسعين من العمر، او اوجه اللوم اليه، خاصة وانه والدي، وليس اي رجل عابر في حياتي، غير اني تعبت منه وطفح الكيل ونفد صبري وجف ريقي، وانا أحاوره بالحسنى، وما يليق بمنزلته الأبوية الكريمة، من دون جدوى، لان رأسه مقفل على قناعات لا تقبل التغيير، وكأنها موروثات دينية مقدسة، ولا يرى العالم الا عبر افكاره ومنظاره الخاص، انه باختصار يعيش عصره القديم وزمنه الغابر، ولا يؤمن بحركة التطور من حوله، فمفاهيمه وسلوكه وأمثلته ومفرداته اللغوية، وكما عاشها وتربى عليها قبل ستين او سبعين سنة ايام شبابه! ربما هي المرة العشرون، وأنا اعيد على مسامعه بلا فائدة: إن الحدث التاريخي الذي شهده العراق عام 2003 يعد انقلابا ثوريا، نقل المجتمع من النظام الدكتاتوري وتكميم الأفواه والحزب الواحد وجرايد الحكومة، الى الديمقراطية والحريات الشخصية وتعدّد الأحزاب وتنوع الصحف، وصار بمقدور المواطن الكريم ان يتظاهر ويعتصم ويعتقد ويروح ويجيء، ويسافر ويضحك ويبكي ويشتم من دون ان يعترض عليه احد، او يقول له، على عينك حاجب، مثلما صار بمقدور الصحفي ان يعبر عن افكاره من غير خوف، وبمقدور الوزير ان يدير وزارته بالموبايل، وبمقدور التاجر ان يستورد ما يريد على هواه !! مشكلة والدي، انه غير معني بالديمقراطية او الدكتاتورية، ولا يعنيه من قريب او بعيد، ان المواطن يمتلك حق التظاهر او لا يمتلك، وان الاحزاب عددها واحد او مئة، ففي كل مرة انتهي فيها من محاضرتي الطويلة وامثلتي وشروحاتي الايضاحية حول هذه القضية او تلك، يسألني سؤالا تقليديا مقتضبا على غرار (ابني الك خبزه بالاحزاب اذا صارت ميه لو الف؟) او (ابني .. الديمقراطية اكو من وراها خبزه الك ؟) ولأنني لم اعتد على الكذب ولا اجيده، وبالذات عليه، فالرجل للأمانة، رباني على الصدق ولو كلفني قوله قطع رقبتي، لذك ارد عليه الرد الطبيعي (لا والله يابه.. ماكو خبزه من وراها)، عندها يقول لي مستعملا يده في الكلام (كافي لعد .. سد الموضوع)، وهكذا ينتهي الحوار، وتذهب جهودي سدى !!في اخر مرة جرى الحديث فيها بيننا، كانت حول قانون الانتخابات البرلمانية، ويبدو انني اطلت الشرح عن القائمة المفتوحة والمغلقة، والدائرة الواحدة والدوائر المتعددة والمقاعد التعويضية، وانشغال البرلمان بمساجلات يشيب لها رأس الرضيع، ويبدوا كذلك ان الرجل قد ضجر من شروحاتي المملة، وطفح به الكيل ايضا، لذلك رد علي بشتائم قاسية وهو يغلي غضبا (ملعون الوالدين .. اذا القائمة مفتوحة لو مسدودة، واذا زاد عدد النواب لو نقص، الك خبزه بهاي اللغاوي كلها؟ اكو شي يخش بجيبك؟ اشو هي بالنتيجة الهم وحدهم، انت على شنو مصخم وجهك ؟!) ثم خلع قندرته ورماني بها، وقد لطف الله بي لانه اخطأ الهدف!!.
|