طويل هو ليل الشتاء، وموحش، والمطر الناعم ينقر أشجار الحديقة برفق، ومن حولي توسلات وحيل يمارسها أحفادي كي أمتعهم بحزورة او حكاية أو لعبة، وكأنهم شبعوا من عالم الانترنيت، او ملوا، فلم يجدوا سلوى تسليهم غير جدهم، ولكن خزيني من الحكايا والتسالي نفد او كاد، وادعك ذهني واستنفر ذاكرتي، وها هي ترشدني الى سؤال يقتضي شيئا من الفطنة والنباهة، كان من بين أسئلة اطرحها على تلاميذي في مدرسة الظفر قبل أربعة عقود أو يزيد! يومها سألتهم (من هو الذي يستطيع تغيير صورته بلمح البصر من اليمين الى اليسار، ومن اليسار الى اليمين؟!) وتلقيت سيلا من الأجوبة، بعضها غريب، وبعضها مضحك، وبعضها مقبول الى حد ما، فمن قائل: الحرباء، الظل، الرياضي، الأسد، الثعلب، إلى قائل: المرأة، المجنون، السمكة، الديك، القمر، إلى قائل: الشيطان، الجني، الملائكة، الاشباح، الطائرة، الماء، الى غير ذلك مما يرد على البال ولا يرد، وفيما كنت استقبل ردودهم مكتفيا بهز رأسي او يدي هزة سلبية، فأجابني احدهم بالجواب الصحيح (أستاذ.. المرآة)، فقلت له (احسنت .. ولكن كيف)، وراح يشرح لي، باللغة البسيطة التي تناسب عمره، مستعينا على إيضاح جوابه بحركات أصابعه وذراعيه، قائلا: أستاذ.. كل إنسان يعني رجال أو مره.. يقف امام المرآة تنقلب صورته من اليمين إلى اليسار وبالعكس رأسا، فاذا كان يحمل دينارا بيده اليسرى مثلا ووردة بيده اليمنى، اصبح الدينار باليد اليمنى، وأصبحت الوردة باليد اليسرى!! أثنيت عليه بالطبع ثناء متميزا، وطلبت من زملائه أن يصفقوا له طويلا! ما زال وجه ذلك الفتى الذكي، ابن الاثنتي عشرة سنة ماثلا أمامي، بل ما زلت أحفظ اسمه بعد الذي مضى ومضى من عجاف السنين، ولكن المهم في هذا المشهد، هو أنني طرحت ذلك السؤال القديم نفسه على احفادي، وكما توقعت فقد شرقوا وغربوا في إجاباتهم، فجعلوا الذي يتغير من اليمين الى اليسار وبالعكس، شيطانا او ملاكا او شبحا او ثعلبا .. الخ. ولكن الذي لم أتوقعه، هو الرد الذي باغتني به احد أحفادي، الطالب في المرحلة الاخيرة من الدراسة الإعدادية، حيث قال لي (جدو.. انهم سياسيو العراق)، لم تكن بالطبع هي الاجابة المطلوبة، غير انها صحيحة كذلك ومضبوطة، وأنا شخصيا لم افطن إليها من قبل، ومع ذلك اوقفته مفتعلا الغضب وشتمته (ابن الكلب.. من اين اتيت بهذه الاجابة السخيفة، الف مرة اوصيتك ان تبتعد عن السياسة، فلماذا تورطنا مع اصحاب الملفات الجاهزة؟!) اجابني بادب (اعتذر جدو ... اني اقصد سياسيي ايام زمان)، سألته (وكيف تثبت ذلك؟) رد علي (لان جماعتنا حاليا ليسوا سياسيين، وإنما تجار مناصب)، ملعون الوالدين كان على حق، ومع ذلك رسمت على وجهي، هالة من غضب كاذب، يمكن التعرف عليها من ألف ميل!!.
|