الحاجة (فضيلة) امرأة في الخامسة والأربعين، سيدة جميلة وربة بيت نادرة وأم احسنت تربية ولدها الوحيد (حسين) على ما يرضي الله والناس وهي بمقاييس العمر والحياة الطبيعية سيدة في قمة شبابها وقوتها ولكنها وهي تتوجه الى المركز الانتخابي في آخر دورة برلمانية كانت تسير بظهر منحن وتتوكأ على عصا وقد نفرت خصلة شيب من تحت فوطتها فيما كانت عيناها تتلمسان الطريق بصعوبة، كم مرة عثرت وكم مرة أعانها اولاد الحلال على عبور هذا الشارع او صعود ذلك الرصيف ومع ذلك أصرت على الحضور.من يعرف السيدة (ام حسين) ويعرف عمرها الحقيقي يصعب عليه ان يصدق ما يرى وكأنه يرى عجوزا تخطت الثمانين لكن تلك هي محنة الحاجة فضيلة بدأت يوم تزوجت ابن خالتها الذي يكبرها بعامين بعد قصة حب عذبة ولم تكد تكمل معه سنة واحد من الحياة الزوجية هي اسعد أيام عمرها حتى أخذوه من مقر عمله في احد مصانع النسيج وألزموه بالذهاب الى الجبهة وعبثا حاول الرجل إقناعهم ان زوجته ستبقى وحيدة في البيت من دون رعاية! هكذا أرسلوه بآذان صماء لا تسمع الوقائع وقلوب قاسية كان ذلك عام 1985 حين التحق بالجبهة وبعد مضي الشهر الأول حصل على إجازته (العسكرية) وعاد الى زوجته حدثها عن أهوال الحرب وكيف يواجهون الموت في كل لحظة وكانت تضمه الى صدرها وهي تبكي وفي إجازته الاعتيادية الثانية اخبرها أنهم نقلوه مع وحدته الى الخطوط الأمامية وأنهم يعيشون ويتنقلون وينامون في شقوق أرضية وحركتهم لا تجري الا في الظلام فبكت خوفا وقبل ان يحين موعد إجازته الدورية الثالثــــة نالت منه شظية صاروخ انفجر قريبا من مكانه!! توفي زوجها قبل ان تكتحل عيناه برؤية ولده وفضيلة لا معين لها ولا سند غير بضعة دنانير هي الراتب التقاعدي لشهيد ودنيا – برغم الخيرين – ألعن من غابة ذئاب كان على الأرملة الممتلئة جمالا وشبابا وأنوثة ان تواجهها وحيدة وكانت كأغلب العراقيات عند وفائها لزوجها وكرامتها أرملة أبية النفس قوية الشكيمة! وبلغ حسين مبلغ المراهقة طالبا متفوقا في الدراسة ولأنه خريج مدرسة الحاجة فضيلة كان يتفجر مروءة ورجولة يعمل هنا وهناك كما تفعل أمه حيث توفر العمل كي يعينها على تدبر المعيشة وأنهى دراسته الجامعية من الأوائل وصدر امر تعيينه كانت فرحة فضيلة دموعا لم تتوقف غير ان حسين لم يعد بكتاب التعيين فقد اشتهته رصاصة من مجهول في بلد يعج بالمجهولين!! الموظفة المسؤولة في مركز الاقتراع سألت العجوز الأمية عن القائمة او الشخص الذي ترشحه فردت عليها [لا اعرف أحدا منهم أرشح من يوفر لي سكنا ولقمة خبز وكرامة وانتخب من يثأر لولدي ويقتص من القاتل!] بكت الموظفة ويحثث في ذهنها عمن يوفر لها تلك المطالب وقررت في النهاية وضع الاستمارة الانتخابية في الصندوق فارغة!!
|