في حدود عمري ومعلوماتي ومسموعاتي، ان العراقيين حتى عام 1958، لم يتعاملوا مع الفعل (تآمر)، ولم تكن مفردة (مؤامرة) رائجة في لغتهم الشعبية او خطابهم الحكومي او السياسي او الصحفي، ومن النادر جدا ان يرد هذا الفعل او تصريفاته حتى في التهم المتبادلة بين السلطة والمعارضة، وربما كانت الفاظ على غرار (عميل) او (عملاء) هي سيدة الخطاب العراقي، لأن مثل هذه الالفاظ يومها تمثل ابشع انواع التهم المخلة بالشرف الشخصي والوطنية، وهي قرين «الخائن» و «الخونة» و «الخيانة»، ويبدو ان مفردات العميل والعملاء والعمالة، فقدت بمرور الزمن فاعليتها على الشرف الشخصي والوطنية، ولذلك كان العراقي يفضل الموت او الانتحار على ان يوصف بالعميل او تثبت عملية تهمة العمالة، في حين اصبح الكثير منا لا يشعر بجرح ولا خدش ولا جرح يوجع ضميره من نعته بالعمالة، بل بعضنا يباهي بعمالته لإميركا مثلا او ايران او السعودية !! على اية حال بعد (ثورة) 14 تموز طفت على السطح لغة (التآمر) واسست ظاهرة تتحكم في خطاب الشارع عامة وخطاب السلطة خاصة واذا لم تخذلني الذاكرة، فان اعدادا كبيرة من الأميين والفوضويين المحسوبين حقا او باطلا على رفاقنا الشيوعيين، هي اول من اشاع هذه التعابير على المستوى الجماهيري (ماكو مؤامرة تصير.. هاي الحبال موجودة)، فقد كانوا يتظاهرون في الشوارع والحبال بأيديهم، وهم يرددون هذا الهتاف، ويلاحظ انهم لم يصفوا خصوم (الثورة) وعبد الكريم قاسم بالعملاء، وانما بالمتآمرين، وكأن العمالة أصبحت من الماضي الذي تجاوزته الذاكرة !! ولو استعرضنا واقع النظام السياسي ايام المرحلة العراقية (1963 ـ 1968)، فإن «التآمر» هو العلامة الفارقة لمغامرات العسكر بهدف السيطرة على مقاليد الحكم، من غير ان يتهم طرفٌ الطرف الاخر بالعمالة، وعندما آلت السلطة الى حزب البعث تصاعدت لهجة المؤامرة، واضحت السلاح الاقوى، -خاصة بعد عام 1979- للتخلص من الاخر وتصفيته، ومن الخطأ الظن، ان بعض اطراف الشيعة والسنة والكرد، هم وحدهم المتهمون بالتآمر، لان تشكيلات واسعة من البعثيين انفسهم كانوا ضحية جاهزة لتهمة التآمر ! عجيب امر «المؤامرة» في العراق فقد كنا نظن ان النظام الجديد الذي اعقب عام 2003، سيتحرر من خطاب التآمر المستهلك، واذا به يمعن امعانا غير مسبوق، بحيث بات السمة الأبرز لعلاقات القوى السياسية فيما بينها، فالحكومة والكتل النيابية والمعارضة، جميعها تتبادل تهمة التآمر، وخضع كل شيء لمنطق المؤامرة، لا احد بريء منها، المحكمة الاتحادية والتحالفات والمشاركة في الانتخابات وعدم المشاركة، وفتح المساجد وغلقها، واصدار قانون، واعلان مشروع، وخسارة منتخب رياضي، واستقالة وزير او اقالة مسؤول، ووضع سيطرات او رفعها، وتظاهرة تطالب بالكسوة الشتوية او مسيرة تحتج على مدير ناحية، وبرلمانية تقيم حفلة زفاف لأبنها او برلماني يسافر من دون علم زوجته.. حتى هطول الامطار بهذه الكميات المدمرة، مؤامرة تقف وراءها اجندات اجنبية !!.
|