في حمى الجدل الذي انتقل - كما تنتقل الفايروسات المرضية- من أطراف العملية السياسية وأروقتها وفضائياتها إلى الشارع والجمهور بحيث أمسى هو الشغل الشاغل للناس في المقهى والسوق، ومركبات النقل العام ودوائر الدولة والجامعات ودور العبادة والنوادي الاجتماعية، وفي كل مجلس وتجمع ومكان على الرغم من أن المتجادلين جميعهم يدركون أن هذا الكلام الطويل العريض، المشحون بالغضب أحيانا والانفعالات والكثير من الأكاذيب والمزايد هو من دون جدوى ولكنه مرض العصر الخاص بالعراق! آخر تقليعة «جدلية» كنت شاهدا عليها وقعت أحداثها في مقهى «9نيسان» في جانب الكرخ، وكان «ابطالها» ثلاثة رجال تتراوح أعمارهم بين العقدين الرابع والخامس، تعبوا من لعبة «الدومينو» على ما يبدو وأخذتهم نوبة من الجدل العقيم، حيث زعم الأول انه منذ سقوط النظام الدكتاتوري لم يلتق وجهاً لوجه بمسؤول كبير، ولم ير رئيس جمهورية او رئيس وزراء او رئيس برلمان او نوابهم او وزيراً او عضو برلمان او وكيل وزارة او مستشاراً يأتي مع أسرته إلى متنزه الزوراء أو مدينة (الملاعيب) او يذهب معها إلى محل صائغ او سوق خضار او مول او فرن صمون او مطعم فلافل على حد تعبيره، وأبدى استغرابه الشديد من هذه الظاهرة، قبل أن يتساءل بلهجته الشعبية الظريفة «شنو ذوله.. شنو هالروح الحامضة، ميضوجون.. ميملون.. متطفر روحهم.. ميريدون يشوفون دنيا.. ناس.. أربعة وعشرين ساعة بالخضراء.. اي سجن خوما سجن والله عمي الله يساعدهم» وضحك بحزن وهز رأسه ثم ختم كلامه «يا جماعة تدرون اني ما اميز المسؤول من غيره.. ولا اعرفه.. ما شايفهم نهائيا» ورد عليه الثاني منزعجا «ابو سميرة .. تره كلامك بي هواية مبالغة يعني مو موزون.. معقولة انت ما شايفهم بالتلفزيون ؟!» واعترض الثالث قائلا «حبيبي ابو اكرم ليش هي القضية بالتلفزيون.. هذا الكلام ما مقبول منك» أجابه الأول ليش يابه كلامي مو مقبول.. ها؟، اسمع عيني أبو هند.. يصير لعد أبو سميرة يدعي انه ما يعرف المسؤولين ولا غيرهم؟! رد عليه أبو سميرة «يصير ونص.. اي شلون أميز المسؤول من غير المسؤول الخاطر الله!» أجابه أبو اكرم «يابه القضية بسيطة اكو هواية دلائل تخلينة نتعرف على المسؤول» وسأله أبو هند «مثل شنو هاي الدلائل؟» رد عليه أبو اكرم «اكو هواية علامات نعرف بيها المسؤول مثلا إذا شفت كرافان أمام أي بيت أو اذا شفت الطريق المؤدي إلى البيت مسدود والحرس قاطعين الطريق، او إذا شفت موكب سيارات يمشي عكس الاتجاه.. شتريد بعد أكثر ؟!» وتصاعد الجدل بينهم ووصل إلى عراك كلامي وفجأة التفت الثلاثة نحوي وسألوني «أستاذ أنت شنو رأيك؟» أجبتهم في محاولة للتهرب من التورط في جدل عقيم.. «كل كلامك صحيح !!» ونظرت إلى ساعتي معتذرا بأنني على موعد وغادرت المكان على عجل !!.
|