منطق الحياة يقول، لا شيء خارج حركة التطور المأكل والملبس والعادات والأفكار والأدب والفن والذوق والعيب والأخلاق والتربية ... الخ ، ولا تقف (الهتافات) بمعزل عن هذا السياق الطبيعي ، ففي العهد الملكي يوم كان الشعب يعيش قمة توحده الديني والمذهبي والقومي ، أنجبت حركة وطنية وان تباينت في برامجها ورؤاها ولكنها موحدة الأهداف ضد الاستعمار والأحلاف والمعاهدات الجائرة ، وموحدة الأهداف في مطالبها : الاستقلال والحرية والخبز والكرامة ولذلك كانت شعاراتها لا تتعدى (يسقط ... يعيش) ، حيث لخصت هاتان المفردتان مطامح الشعب العراقي وحركته الوطنية ! لم يعد الأمر كذلك في العهد الجمهوري ، حيث تمزقت وحدة الحركة الوطنية ومعها تمزقت وحدة الشعب ، (سياسيا) ، ولأول مرة في تاريخ العراق يبتعد الهتاف من روحه الوطنية العامة ، ويقترب من دوافعه الحزبية ويظهر (الفرد) جليا في الشعارات سواء بصيغة المدح ام الذم (عاش زعيمي عبد الكريم ... الخ) وكانت صورة الفرد في الهتافات بديلا عن مواجهة الاستعمار والأحلاف، وبديلا عن أحلام الحرية والخبز والكرامة، وسوف تتواصل صيغة (الفرد) ، ومعها تتصاعد أساليب التفتت الشعبي ، ففي العهد العارفي (نهاية 1963، لغاية تموز 1968) كان النظام هو من يحرك الشارع ويطلق التظاهرات ويطرح الشعارات ، وهي بدعة غير مسبوقة ـ بدأنا نسمع (جيم .. جيم .. جبهة ... ما بيها بعثية ، بيها عرب وكراد ضد الشيوعية) ، وبغض النظر عن مناقشة هوية هذه الجبهة التي يتم استبعاد الشيوعيين والبعثيين عنها في ستينات القرن الماضي ، فان نمط الهتافات التي عرفناها في العهد الملكي قد أصبحت في ذمة التاريخ ، وابتداء من تموز 1968 لغاية نيسان 2003، تكرس الهتافات لصالح الفرد ، واكتسح كل ما سبقه ففي الحقبة البكرية (ما زال النظام هو من يحرك الشارع ) كنا نسمع الجماهير تهتف (بالروح ... بالدم ... نفديك يا بو هيثم) ويوم أطيح بأحمد حسن البكر عبر مسرحية (تسليم الراية) المعروفة لم يتغير مضمون الهتاف ، باستثناء الاسم (بالروح ... بالدم .... نفديك يا صدام) ... الانعطافة النوعية في الهتاف الجمهوري ، هي التي حصلت بعد سقوط النظام ، لأننا لم نعد شعبا واحدا يرفع هتافا وطنيا موحدا ، ولم نعد حكومة مركزية واحدة تحكم الشارع وتسيطر على حركته ، بل أصبحنا حكومة اتحادية وحكومة إقليم وحكومات محلية ، وهذه الحكومات تهتف ضد بعضها البعض ، وقبل ذلك أصبحنا عدة شعوب سنة وشيعة وقاعدة ومقاومة وعربا وكردا ومسيحيين وتركمانا ويزيدية وشبكا وصابئة وحنبلية واثني عشرية ومالكية وحنيفية وشافعية وصوفية وسلفية وليبرالية وعلمانية .. ولذلك استغل السياسيون هذه الفرصة ، وباتوا هم الذين يتظاهرون ويهتفون : بالروح .. بالدم .. نفديك يا كرسي !!.
|