في بداية حياتي الصحفية تعرفت على احد رؤساء التحرير ، وتوطدت علاقتي به مع الأيام ولذلك عرفته عن قرب ، وكان الرجل يعيش وسواسا مدمرا بسبب مخاوفه من أوضاع الجريدة المالية ، وشبح الغلق الذي يطاردها وربما كان على حق فليس ثمة دعم او تمويل ولا إعلانات تسد بعض النفقات ومن هنا اعتمد أسلوب التقشف والضغط على النفقات ، حتى انه اصدر امرا إداريا يقضي بتعيين نفسه مديرا للحسابات في الدوام الصباحي ، اما المساء فيمارس مهنة رئيس التحرير ، وقد حرص الرجل تماما على عدم الخلط بين الصفتين، واشتغل بشخصيتين منفصلتين، بحيث لا يتدخل في شؤون التحرير صباحا، ولا يقرب من الحسابات مساء !!. وعلى ما اذكر إنني قدمت له قصة قصيرة ، وبعد تفضله بنشرها في الصفحة الثقافية مع تخطيط جميل ، صرف لي مبلغ دينارين ، وهو مبلغ كبير جدا يومها ، خاصة وان مطبوعات تلك المرحلة لم تكن تدفع أي (أجور) للكتاب ، ولكن بحكم العلاقة الوطيدة بيني وبينه حزت على هذا المكسب الاستثنائي .. (وقع) الرجل على ورقة مكافأتي (2 دينار) بصفته رئيسا للتحرير ، ووضعها في داخل اضبارة مع بضعة أوراق أخرى، وأحالها الى قسم الحسابات والتدقيق للنظر فيها، والبت النهائي في صرفها ، وعندما حل صباح اليوم الثاني قام الرجل نفسه من موقعه مديرا للحسابات بالنظر في ورقة المكافأة التي وقعها مساء أمس بصفته ، رئيسا للتحرير ، ورأى ان المكافأة عالية ولهذا كتب على الورقة الهامش التالي (السيد رئيس التحرير المحترم ان المكافأة المصروفة من قبلكم لسيد حسن العاني ، قدرها ديناران تعد كبيرة جدا، وتؤثر تأثيرا بالغا على ميزانية الجريدة ، وبناء على ذلك اقترح تقليص المبلغ الى دينار ونصف .. مع التقدير) ثم وضع اسمه وتوقيعه وعنوانه الوظيفي ، وحين انتهى من تلك الإجراءات الحسابية ، وضع ورقة المكافأة داخل اضبارة معنونة الى رئيس التحرير . في المساء عاد الرجل الى منصبة رئيسا للتحرير وقرأ المقترح الذي كتبه ، بنفسه على ورقة المكافأة وكتب الهامش التالي (أوافق على المقترح يصرف مبلغ دينار ونصف فقط) وما كاد يفرغ من الموافقة والتوقيع على المقترح حتى اتصل بي هاتفيا ، وطلب مني بإلحاح ان احضر غدا صباحا ، ومع بداية الدوام الرسمي للجريدة ، كي أتسلم مكافأتي !! وقد أثار إلحاحه استغرابي وسألته عن سبب هذه العجالة ، فقال لي (في الحقيقة اخشى اذا عرضت المكافأة غدا على مدير الحسابات ، ان يقترح تقليصها مرة أخرى لان ظروف الجريدة المالية كما تعلم .. وراح يسرد لي متاعب المطبوع ولكنني لم استطع الذهاب إلا بعد ثلاثة أيام ، وكانت المفاجأة ان مكافأتي تقلصت إلى دينار واحد فقط !!.
|