بدأت حياتي الوظيفية قبل 44 سنة خلت ، معلما في مدرسة قروية نائية على طريق الكوت ، كان الوصول إليها يتطلب 3 ساعات ، ومثلها في طريق العودة ، ولهذا فضلت السكن هناك في غرفة طينية مجاورة لبناية المدرسة ، التي كانت هي الاخرى من الطين ، وجذوع النخيل ولعلها واحدة من اغنى التجارب في حياتي ان أعيش وسط أجواء القرية وجمالها ومتاعبها واقف عن قرب على الكثير الكثير من عادات الناس وتقاليدهم وطيبتهم وسذاجتهم ومشكلاتهم !!. ما زلت استذكر واحدة من ابرز الأحداث التي كنت شاهدا عليها ، فقد اتفق فلاحان على ان يشتركا بزراعة قطعة ارض كبيرة ، لا استطيع تقدير مساحتها بلغة الدوانم ، وكان الاتفاق يقضي ان يكون كل شيء بينهما مناصفة ، شراء البذور والحرث والزرع والربح ، وانطلقا بهمة وعلى بركة لله ، وأعطت الأرض إنتاجا اكبر مما توقعاه ، وبعد ان تم بيع المحصول بصورة نهائية ، بلغ صافي الربح (846) دينارا ، أي أن حصة الواحد منهما (423) دينارا لموسم واحد ، وهذا المبلغ يزيد على راتب المعلم لمدة (13) شهرا في منتصف العقد الستيني من القرن الماضي ، ناهيك عن ان أسرتي الفلاحين كانتا تستفيدان من المزروع (باذنجان ، بامياء ، طماطم ، قرع ، خيار) طوال الموسم !. كانت صيغة العمل ان تكون اموال البيع لدى الفلاح (نوري) لكي يكون مركز الوارد في مكان واحد ، ثم يتقاسمان المبلغ مناصفة غير ان المشكلة التي حصلت ، هي قيام نوري بالطلب من شريكه محمد إمهاله شهرا واحدا ثم يعطيه نصيبه من الربح لأنه بمسيس الحاجة الى المبلغ ، ولم يعترض محمد خاصة وان بينهما (زاد وملح) ، وشريكة نوري ابن قريته ورجل خير لا ترقى اليه الشبهة ، وانصرم الشهر فإذا به يطلب مهلة شهر اخر ، وهكذا كان يطلب المهلة بعد المهلة ، حتى مضت تسعة أشهر ، وهو الامر الذي اثار الريبة والشك في قلب محمد ، على الرغم من كونه يعرف شريكه جيدا ويعرف انه من أسرة كريمة ، لان الرجل لم يسترجع حصته والسنة قاربت على الانتهاء ، فقد تأزمت الاجواء بينهما ، وسرعان ما انفجرت ، وكان من نتائجها عراك بين الاسرتين وضرب رصاص ودماء وجرحى !!. هنا تدخل الشيخ وسادة القرية ووجهاؤها ، واستمعوا الى الطرفين ووجدوا ان الحق مع محمد ، وأثار استغرابهم ان نوري نفسه كان يقر بحق شريكه ، ولم يقدم عذرا مقبولا ، يدافع به عن تماهله ، ولهذا اصدر الشيخ والسادة والوجهاء ، حكما (وحكمهم غير قابل للرد او النقض او الاعتراض يقضي بدفع حصة محمد كاملة ومعها مبلغ (50) دينارا كتعويض عن الضرر التاخيري الذي لحق به ، وان يكون الدفع في مدة أقصاها (48) ساعة ، ولم تمر سوى ساعة واحدة حتى عاد نوري بالمبلغ ومعه الفائدة ، وهو يعتذر ويطلب الصفح ، وكنت أتابع الأحداث عن كثب وانا في غاية الدهشة ، فلو دفع الرجل نصيب شريكة منذ البداية ، لما نزفت دماء ولما دفع غرامة تعويضية ولما لامه الآخرون .. ولكن تلك هي النفس الإنسانية أمارة بالسوء !!.
|