انه اعلام 1980 ، وأنها ناحيـة (حرير) ، مقـــر وظيفتي يومها ، وموطن سكني ، كنت حديث عهد على المدينة ، ودعوة مشفوعة بالإلحاح من مدير مدرستي ، لم تنفع معها أعذاري واعتذاراتي واطل صباح (21 آذار) كان مفاجأة بالنسبة لي بدت الشوارع مثل صباحات العيد ، أو كأنها تستقبل مهرجانا فلكلوريا للأزياء الكردية ، حتى الأطفال كانوا بسراويلهم الفضفاضة وأحزمة البطن العريضة المصنوعة من القماش على هيأة لفات تزين خصورهم ، ويعتمرون غطاء الرأس التقليدي (جراوية) ، غير أن أبهى المشاهد كان من نصيب الصبايا والنساء ، والمرأة الكردية ميالة الى الألوان القوية الصارخة ورنات الذهب ، كانت صدورهن وأيديهن مثقلات بالحلي ، فيما كانت ملابسهن تبهر آذار وعند نهاية الأكمام من كل جانب تنزلق قطعة قماش طويلة هي جزء من الفستان نفسه ، لتنعقد القطعتان وراء الظهر ، من دون أن تؤثر على حركة الجسد أو الذراعين !. في الساعة العاشرة صباحا ، أو قريبا من هذا الوقت ، كان ما لا يحصى من المركبات الشخصية والمستأجرة تتأهب للانطلاق رحلة جماعية لا اعرف وجهتها ، ولكنني اعرف جيدا أنني (الأفندي) الوحيد الخارج على قانون المهرجان في تلك العاشرة صباحا ، وإنا اجلس مع (أبو أري) السيد كمال محمد حارس ،مدير مدرستي ، وزوجته وشقيقتها وأبنائه الخمسة في سيارة (الكوستر) الغاصة بحشد من الجيران ، لا اعتقد في ذلك الضحى المشمس أن أحدا بقي في بيته ، حتى أصحاب الدكاكين والمحال اقفلوا ابوابهم بدت المدينة مهجورة عندما غادرت أكثر من مئة مركبة مركز حرير قاطعة مسافة تقرب من ثلاثين كيلومترا ما بين التواءات الطريق، وحقول القمح وشقائق النعمان ، لتحط الرحال عند ضفة نهر سهلة منبسطة ، فيما كانت الضفة المقابلة تنهض على هيأة تلال متموجة متباينة الارتفاع !!. على طول الضفة السهلية الممتدة الى مئات الأمتار ، بسطت العوائل افرشتها ، ونزلت لوازم السفرة ، قدور وأواني طعام وصناديق مشروبات غازية ولبن وخبز رقاق وطبول وأجهزة تسجيل تصدح بالأغاني الكردية ، وقبل أن يأخذ كل شيء مكانه ، انعقدت على عجل (دبكات) هنا وهناك ، رجال ونساء وصبايا وشباب وعجائز وشيوخ ، حلقات الدبكة من الجنسين معا ومن الأعمار كلها !!. كنت أتخطى مع (أبو أري) على طول ذلك الخط العائلي ، أحاول الاستمتاع بالاحتفال النوروزي وطقوسه ، وربما أول ما استوقفني أن هذا الحشد الهائل من الناس ، يتعامل كأسرة واحدة ، وربما أسعدني بقدر ما أتعبني أن كل عائلة نمر قريبا منها ، تقطع علينا الطريق وتجبرنا على مشاركتها شيئا من طعامها ، ولو كان لقمة ، أو قدح لبن ، وكان هذا (التكريم) ينصب حولي بالدرجة الأساس ، لأنني (أفندي) والأفندي لابد أن يكون غريبا ، ولذلك رأيت أن أفضل تصرف لإيقاف التكريمات هو الاندماج في أحدى الدبكات ، وهو ما اقدمت عليه فعلا ، وعلى صوت الطبل والزرنه ، كنت أحاول تقليد حركاتهم ، أتقدم وأتراجع واصعد وانزل ومدير مدرستي غارق في الضحك ، لأنني ـ كما اخبرني لاحقا ـ كنت اؤدي الدبكة العربية على إيقاع الموسيقى الكردية .
|