واحدة من الخسارات الكبيرة في حياتي .أن عدداً من رموز الإبداع العراقي ظلوا بعيدين عن قائمة أصدقائي المفضلين. وكانت حدود علاقتي بهم عابرة .او لا وجود لها أحيانا او انها جاءت متأخرة مع الأسف والخلل في طبيعة شخصيتي الخجولة المنطوية التي ضيعت عليه فرص التعاطي مع رموز الثقافة في البلد! الفنان غني عن التعريف عبد الستار البصري ،هو احدى الخسارات لان تاريخ لقائي به والتعرف عليه عن قرب لم يحصل الا في أواخر عام 2013 وكان يكون قبل هذا الوقت بعقد او عقدين .. فقد شاءت المصادفة أن تجمعنا في برنامج اذاعي كنت اكتبه لأذاعه بغداد بعنوان ( عشنه وشفنه) وتناوب على تقديمه ثلاثة فنانين كبار هم مقداد عبد الرضا وستار خضير (لمدة وجيزة) وعبد الستار البصري الذي كان المدة الاطول من نصيبه، لا املك حق الحديث بلغة النقد الفني ،ولكنني امتلك حق القول: انه تعامل مع (عشنه وشفنه) وكأنه المؤلف وليس المقدم ،اقترب من روح النص باستيعاب مذهل. فهو يدرك متى يحاجج او يسأل او يسخر او يحزن او يضحك ،لذلك اقسم ان من يقف وراء نجاح البرنامج هو البصري ،الذي اتصل بي ذات يوم مساء وسأتحدث من هذه اللحظة عن الوجه الآخر للفنان.. كان في صوته فرح طفل حصل على هدية من والديه وهو يخبرني .ان الإذاعة اجرت استفتاء جماهيريا بين مستمعينا وفاز (برنامجنا) كأفضل برنامج في الإذاعة، وبعد ثلاثة أيام بالضبط اتصل بي ثانية وفي صوته حزن طفل ضاعت لعبته بأن الإذاعة كرمتنا بإيقاف البرنامج !! في أعماق البصري طفل حقيقي في براءته ونواياه الطيبة .طفل مسالم دمث الأخلاق تلقى تربية منزلية علمته منذ سن مبكر على التسامح وحب الآخرين وعلى قدر كبير من التواضع ،غير أن هذا الطفل ولد بعقل رجل ناضج ،وروح مناضل لا يعرف المساومة، يضع كرامة نفسه وشرف تاريخه فوق أي اعتبار..رجل ينحدر من ذرية المبادئ ،ومن سلالة الذين يقولون (الموت ارحم من خطيه) ولهذا يوم ضاقت به السبل في سنوات الحصار ،لم يتاجر بفنه، لم يلهث وراء اصحاب القرار الفني ممن يمتلكون الحل والربط، ولم يطالب الحكومة او يهادنها بكلمة او يمسح أكتافها. فضل الصمت وبعث رسالة عنيفة خدشت شرف كل من يعنيهم الأمر، عندما نزل الى الرصيف بائع بسطة يستعين بها على اللقمة الكريمة. البصري أكثر من واحد ،كوميدي، ترجيدي ،مسرحي ،اذاعي ،تلفزيوني لكنه حين تعلق الامر بالمبادئ ،والقناعات فهو واحد، كما أصبح بالأمس صامتا عبر رسالة الرصيف ،يحتج اليوم كذلك وينزل مع بسطته مجددا، لكنه لا يساوم ..لا يهادن. لا يطلب ..ويقطع لسانه قبل ان يسأل، ويده قبل ان تمتد ..فهل هذا قدر الشرفاء على مر العصور!
|