عندما حل عام 1969، أعلنت إفلاسي رسميا ، وانضممت الى خانة المجموعة التي تعيش (تحت خط الفقر) كما يسمونها اليوم ، وعلة ذلك ان أمي رحمها الله ألحت قبل هذا التاريخ بسنة واحدة ، وركبت رأسها وقررت تزويجي كي تقر عينها وتهنأ بذريتي ولم تفلح أعذاري معها كوني معلما حديث العهد بالخدمة وراتبي بالكاد يسد مصروفاتي، خاصة وأنا طالب جامعي في مسائية المستنصرية وادفع اجور الدراسة والكتب والطريق ولكن من يقنع المرحومة ؟ وقرت عينها بزواجي، وزوجتي ليست موظفة بينما تعرضت عيناي كلتاهما للعشو الليلي والنهاري ، ففوق المصاريف القديمة كلها ، أصبحت ملزما بمصاريف جديدة ومرهقة للغاية فقد بات لزاما علي ان ادفع ديونا وأقساطا لا أول لها ولا آخر من غرفة النوم الى بدلة العرس ومن حفلة الزفاف الى ربطة العنق وأنا ما زلت طالبا ادفع أجور الكلية ومعلما بالراتب نفسه .ما أوجعني شيء في ليالي الأرق والضنك، والحاجة مثلما أوجعني وضع زوجتي المسكينة ، فتاة في أول شبابها وزوجها غير قادر ان يدعو إلى المطعم لتناول لفة فلافل، ومع ذلك لم تتضجر يوما او تتأفف، بل كانت تبدي القناعة وتظهر الرضا وتحرص على ان لا تفارقها الابتسامة، وأنا اعرف ان قلبها ينزف حزنا مكبوتا ولهذا طالما فكرت في ليالي النحس تلك ، ان أرسطو على البنك المركزي ووضعت عشرات الخطط جميعها فاشلة مثلما فكرت ان امتهن الفساد المالي ، ولكن ماذا يمكن لمسلم مثلي ان يسرق وربما لو كانت رواتب المسؤولين والنواب يسيل لها اللعاب ، كما هي اليوم ،لرشحت نفسي وزورت ورشوت وبذلت المستحيل كي أصبح مسؤولا او نائبا !!.رب العزة وحده ارشد بصيرتي كي اشتغل عاملا في شركة بلغارية تتولى مد الأنابيب الخاصة بشبكة المجاري في منطقة الاعظمية وأتقاضى أجرا يوميا قدره (600 فلس) وما كنت لأحصل على هذه (الوظيفة) المؤقتة في العطلة الصيفية فقط من دون (واسطة) ، وكان صديق من عمري هو (واسطتي) لديه احد أقاربه ويدعى (فاضل السامرائي) يعمل بصفة مراقب على العمال ضمن الشركة .. وقد قصدت المكان، وهو قريب من ساحة عنتر، ورأيت شابا في مقتبل العمر خمنت انه مهندس بلغاري، بل لا يمكن الا ان يكون غير ذلك ، اصفر الشعر بعينين زرقاوين وبشرة بيضاء، ويرتدي ملابس نظيفة ويقف الى جانب مضخة تسحب المياه الجوفية، وقد أربكني الموقف لأنني لا اعرف اية لغة يتحدث البلغاريون ولم تكن أمامي حيلة الا اللغة الانجليزية لعله يجيدها ، ولكنني لا أحسن التخاطب بها ، وبمعونة ذاكرتي وما بقي في ذهني من مفردات انجليزية (دبرث) جملة بسيطة ترجمتها (رجاء اين السيد فاضل) ، نظر الشاب الي بازدراء وقال ( روح بويه شوفه هناك) وأشار بيده الى الموقع، وسمعته يدردم مع نفسه وأنا أتوجه صوب إشارته ، (والله هذا بطران .. أهنا العربي ما مدبري .. والأفندي يرطن اجنبي) وحين توطدت علاقتي لاحقا بذلك (المهندس) البلغاري ، اكتشفت انه (عامل) من مدينة العمارة وإنني انخدعت بسحنته الأوربية ، مثلما انخدع بلغتي الأجنبية !!.
|