في منتصف التسعينات من القرن الماضي ، نشرت موضوعا صحفيا عن أمانة بغداد، قلت فيه ما معناه ، ان هذه المؤسسة الخدمية كانت اكبر عون لرجال الصحافة ، فحيثما كان الصحفي على عجلة من امره ، ولم يجد مادة تسعفه لملء فراغ او سد نقص في المطبوع ، فأن الأمانة ماثلة أمامه ، وهي المنقذ الجاهز من الورطة، فما عليه الا أن يستذكر او يستحضر اي شارع او سوق او حي سكني او جزرة وسطية لم تبلغها يد الأمانة (وما أكثر الأماكن) فعانت من الإهمال، ثم يكتب مقالته وهو مطمئن البال والضمير الى مصداقية قلمه !!. يومها اغضب هذا الكلام أمين بغداد، وعبر عن غضبه بطريقة حضارية ، أراد من ورائها تلقيني درسا بعد ان يثبت لي بالملموس ، ان أفكاري ليست موضوعية ، ولا أساس لها من الصحة ، ولهذا دعاني الى جولة حرة للتعرف مباشرة على جهود الأمانة وانجازاتها ، ولبيت الدعوة ، وتجولنا في مناطق عدة من العاصمة ، ثم تناولنا معا وجبة غداء ارستقراطية ، وسألني على المائدة وانأ منشغل عنه بالتهام المزيد من اللحوم التي كنا لا نراها الا في مناسبات الزواج والفاتحة ! كيف رأيت شغل الأمانة ؟ ! قلت له وانأ ابتلع (هبرة) من غير مضغ (الأمر مفرح حقا، ولكن المشكلة ان جهود الأمانة جميعها تنصب على الأماكن العامة التي تقع تحت أنظار المسؤولين أما في داخل الإحياء السكنية والأزقة ، فلا وجود للأمانة وعمالها !!) . وشعرت من تلافيــــف وجهه المنزعجـــة ، انه نادم على وجبة الغــــداء الملكية التي قدمها لرجل لا يقدر الزاد والملح !! ما علينا بما مضى ، فقد تغيرت الحال وتبدل النظام وقام العراق الجديد، وبدأت أمانة بغداد تعمل بأسلوب جديد ، فهي لا تلعن الظلام ولكنها توقد شمعة ، وكان هذا واضحا من جهدها الدؤوب ، وهي تغرس آلاف الفسائل ، وتؤهل الحدائق والمتنزهات ، وتجهزها بالمساطب ، وتملأ الجزرات الوسطية بشتلات الورد، وتؤثث الأرصفة بالمقرنصات وتطليها بالألوان الجميلة ، وتقوم بأكساء الشوارع وتعريضها ، وغير ذلك الكثير من أعمال الصيانة والترميم التي يمكن ان نلمسها بوضوح في العديد من (الأماكن العامة) ، على الرغم من أطنان الأنقاض والنفايات والبرك والمياه الأسنة والمجاري الطافحة وأكوام الازبال التي (سدت) الأزقة ومنافذها ، وتسلقت اسيجة المنازل ، وامتلأت بها الساحات ... الا ان هذا لم يؤثر على سياسة الأمانة الثابتة ، وأسلوبها الستراتيجي ، فهي لا تلعن الظلام ، ولكنها توقد الشموع في المناطق التي تقع تحت انظار المسؤولين !!.
|