التجربة المرة التي عانى منها الشعب العراقي على مدى عقود عديدة ، جعلته شديد الحذر ، كثير الخشية من الكلمات الناعمة والأوصاف الرنانة التي يطلقها كبار القادة الحكوميين على سياساتهم او مواقفهم او ثوراتهم آو انقلاباتهم ولعل الأمر اللافت للنظر حقا ، ان شيوع مثل استفحال الرنان والناعم من الكلام ، هو صناعة جمهورية بامتياز ، حيث لم نسمع طوال الحقبة الملكية مثل هذا التهريج الذي يجمل وجه النظام ، او يحاول تسويق بضاعة الألفاظ المحسنة والمفردات المزوقة لكسب ود الشارع وإرضاء الناس او الضحك عليهم وخداعهم بتعبير ادق !. انطلقت البداية بعد 14 تموز 1958، ولكنها لم تتحول الى ظاهرة ، ولذلك ظلت تدور في أفق ضيق على غرار (ثورة الفقراء ـ الثورة الشعبية ـ الزعيم الاوحد ... الخ) غير ان هذه البداية المتواضعة التي ذبلت وكادت تنتهي ايام السلطة العارفية ، ولدت من جديد بعد عشر سنوات ، في 17 تموز 1968، وكانت ولادتها هذه المرة أشبه بانفجار بركان ، فقد تشظت الألفاظ وتناثرت الألقاب حتى غطت عين الشمس ، فصدام حسين مثلا هو (الرئيس والقائد والمناضل والمهيب الركن والفذ والملهم وهو العراق وهو ... الخ) مع جملة ثابتة يعد إغفالها او عدم ذكرها جريمة (حفظه الله ورعاه) ، فيما استأثر 17 تموز بألقاب (الثورة ـ القومية ـ التقدمية ـ الاشتراكية ـ المجيدة ـ البيضاء .. الخ) ، فماذا أنتجت لنا مفردات الرئيس والملهم والتقدمية والبيضاء سوى ثلاثة حروب ومليون شهيد وملايين الجرحى والمعوقين والأرامل والأيتام ، وماذا صاغت لنا تلك الألفاظ غير لغة (مؤامرة ـ إعدام ـ تبعية ـ عمالة ـ جوع ـ فقر ـ تسول ـ قصور رئاسية ـ مقابر جماعية ) وكانت مفردة (العدم) هي سيدة اللغة وعنوان النظام !.هل جرى الأمر على نحو مغاير بعد 9 نيسان 2003 ، كان طوفان الألفاظ هذه المرة اعتي واعنف لأنه موشوم بلكنة أجنبية ، ولان الطوفان جاء مباغتا وسريعا وعالي الموج ، ونحن شعب لم نتعلم السباحة الا على ضفاف الأنهار ومياهها الضحلة ، فقد غرقنا في لجة (الشفافية ـ والأصابع البنفسجية ـ والكوتا ـ والتداول السلمي للسلطة ـ والديمقراطية ـ والأكثرية والأقلية ـ والعتبة الانتخابية ـ والنصف زائد واحد ـ ودولة الرئيس) فماذا أنتجت لنا مفردات الشفافية والكوتا والديمقراطية وحرية التعبير ودولة الرئيس غير كواتم الصوت والقاعدة والملثمين والطائفية وداعش والعصيان المدني والمفخخات ومواجهات النجف والحويجة والانبار ، وغير ملايين الشهداء والجرحى والمعوقين والأيتام والأرامل والمهجرين ، وبالنتيجة كانت مفردة (الدم) على مدى إحدى عشرة سنة هي سيدة اللغة والعنوان الأبرز للحكم ؟! ترى أليس غريبا ما بين 1968 ـ 2014 ، ان يكون الدم العراقي رخيصا إلى هذا الحد ؟ !!.
|