يمثل العقد الستيني من القرن الماضي، بداية مراهقتي الثقافية ، وقد شاءت المصادفة ا ناقع اسير مصطفى جواد وطه حسين وابراهيم السامرائي ومجموعة من الادباء العراقيين والعرب الذين يولون اللغة العربية (بلاغتها ونحوها وصرفها) المقام الاول من اهتماماتهم ودراساتهم ، ويشنون حربا لا هوادة فيها على اللهجات المحلية التي تعنى بالعامية ، ويحذرون من مخاطرها على وحدة اللسان العربي والتراث والكتاب الكريم ، ولهذا كنت انظر الى الشعر الشعبي على انه منكر ورجس من عمل الشيطان !. وظل موقفي كذلك ، حتى وقعت بين يدي مصادفة قصيدة شعبية لمظفر النواب ، ما ان قرأتها الا وقلبت كياني وافكاري وتاريخي النضالي ضد العامية ، فهذا الرجل من التألق والنبوغ والقدرة على التحليق ورسم صور شعرية ومعجزات بلاغية وخيال مذهل ، ما جعله ـ من وجهة نظري المراهقة ـ يتخطى معاني وصور وسلاسة وجماليات امراء الشعراء في العصر العباسي ، وهكذا نشأ بيني وبينه عشق غريب ، واصبحت فجأة واحدا من مريديه وطلابه ، أتقصى اخباره ، وابحث عن نتاجه الشعري ، واحفظ قصائده عن ظهر قلب وانشرها بين الناس وكأنني من المبشرين !!. في العام الدراسي 1968 / 1969 ، وانا طالب في الجامعة المستنصرية ، المرحلة الثالثة ، قسم اللغة العربية من كلية الاداب ، نشرت مجلة «الف باء» العراقية ، قصيدة جديدة للنواب تحت عنوان (جنح غنيده) ... وافردت لها افضل صفحتين ملونتين في الوسط ، خاصتين بالمطبوعات الفنية المهمة ، وكانت المجلة مع كتبي واوراقي في داخل القاعة ، وشاءت المصادفة ان يكون ذلك في درس النقد الادبي ، الذي يتولاه الدكتور (محسن غياض) ، وهو من افضل الاساتذة علما واخلاصا وجدية ، ولكنه رجل عنيف ، يبغض اللهجة العامية بغضا لا مثيل له ، حتى انه لا يسمح لنا ان نتكلم بها في اثناء المحاضرة ، ويرى في الشعر الشعبي (مؤامرة) تستهدف سلامة اللغة العربية ، اقول : صادف ان تكون مادة المنهج النقدي المقرر قد انتهت ، ولذلك طلب منا ان نقرأ ونراجع بحريتنا ، واذا كان هناك سؤال يتعلق بالنقد فيمكن طرحه او الاستيضاح عنه !. لعلها فرصتي الذهبية لقراءة (جنح غنيده) والتمتع بها ، ومحاولة فهمها وحفظها ، وقد فاتني تماما موقف غياض من الشعر الشعبي ، وفيما كان يتخطى وقعت عيناه على المجلة ، فرفعها بين يديه وفوجئ بالجريمة ، أنفعل وهاج وماج وارتعد جسده وقام بطردي من القاعة ، وهو يشتم «الف باء» والنواب بالفصحى ، فيما شتمني بالعامية !!.
|