تعد اللغة في مقدمة الشروط القومية لأية امة من الأمم في حين لا تستطيع اللهجة المحلية ان تنهض بهذا الشرط ، خاصة بالنسبة للعرب ، لان التباين في لهجاتهم بلغ حدا لا يمكن لألف جامعة عربية أن تواجهه ، حيث يتعذر على العراقي ، فهم جملة مفيدة من السوداني او الجزائري او الصومالي او المغربي ، بل وحتى المصري والسوري واللبناني لولا شيوع الأغاني والأفلام او المسلسلات وبالمقابل يصعب على اغلب العرب ، استيعاب اللهجة العراقية المحلية ، وهذا أمر طبيعي وطبيعي جدا ، ان تصل مصاعب التفاهم اللهجوي إلى أبناء الشعب الواحد ، واشك كثيرا بان مواطنا ينحدر من الموصل يقدر على التفاهم بسهولة مع مواطن ينحدر من الهور .والمشكلة تتعدى خصوصية النطق الى خصوصية المعنى في المفردة الواحدة والشواهد أكثر من ان تحصى ، فقد استغربت المطربة (صباح) في إثناء زيارتها الى العراق، لان المصور الفوتوغرافي قال لها : ستكون الصور جاهزة بعد (غسل الفلم) ، فقد سألته بطريقة مازحة (هو الفلم لا سمح الله مات ولا ايه) ، ذلك لان مفردة (غسل) لا تستعمل في مصر المعنى المستعمل لدينا وإنما يستعملون مفردة تحميض !.مرة كلفني الزميل مصطفى كامل وكان مدير مكتب لإحدى الصحف الخليجية ان اكتب تحقيقا اجتماعيا عن متاعب الزيجات الجديدة وقد تضمن العنوان مفردة الزنابير، كان يكون (الزنابير تهاجم أعشاش العرسان الجدد) او شيئا بهذا المعنى وضحك الزميل كامل من مفردة الزنابير واستأذنني بإبدالها الى (الدبابير) ، لان كلمة الزنبور في اللهجة الخليجية لها معنى بعيد كل البعد عن معناها المتداول في العراق ، ومما اذكره هنا ان مفردة (فلس) وهو اصغر عملة معدنية في العراق كانت سائدة في العهد الملكي والى سنوات طويلة في العهود الجمهورية وكانت كلمة فلس مكتوبة على احد وجهي العملة ، ومع انها كلمة عربية واستعمالاتها واشتقاقاتها واسعة مثل (أفلس ـ يفلس ـ مفلس ـ إفلاس ... الخ) الا إنها أثارت انتباه الدكتور كمال نشأة ، وهو شاعر وناقد مصري تولى تدريسنا مادة النقد الحديث في الجامعة أواخر العقد الستيني من القرن الماضي لان اللهجة المصرية تستعملها بدلالة بذيئة وتحضرني أمثلة كثيرة لا يتسع لها المجال .وهكذا يتغير معنى الكلام والكلمة والمصطلح والدلالة بتغير المكان والاستعمال ، سواء بين بلد وبلد، ام بين مدن البلد الواحد، بل وتحدث هذه التباينات والاختلافات والمفارقات أحيانا، حتى في اطار المدينة والواحدة وكل هذا طبيعي او ناتج عن البيئة المحلية وتأثيراتها على تفكير ولهجة التجمعات السكانية ، ولذلك لا يصح أبدا أن نستغرب لو صرح هذا المسؤول او ذاك بأنه ستجري (تحسينات) كبيرة على رواتب المتقاعدين مثلا او البطاقة التموينية او الخدمات البلدية ولم يحصل شيء او حصل العكس لان مفردة ، (تحسينات) قد يفهمها الناس بمعناها المألوف ، ولكنها قد لا تعني ذاته لدى سكان المنطقة الخضراء بسبب الاختلاف البيتي !!.
|