رحم الله معلم الرياضة في مدرسة الكرخ الابتدائية، وأنا أتحدث عن أوائل العقد الخمسيني من القرن الماضي، فقد كان في أيام الشتاء الممطرة، يبقينا في الصف، ويحول الدرس إلى نوع من الرياضة الذهنية التي تحتاج الى قدر من التأمل والنباهة، وذلك عبر مجموعة من الحزورات والألغاز والالعاب المسلية، وكنا ـ نحن التلاميذ ـ بدأنا نحب ايام المطر، ونستمتع بذلك الكوكتيل الظريف وما يرفقه من مرح ومواقف مضحكة!
ولعل من اطرف ما علق في ذاكرتي، على الرغم من مرور ستة عقود تقريبا، هي لعبة (البم) ـ مفردة لا معنى لها ـ وتعتمد على مشاركة أي عدد من التلاميذ، ما عدا الخمسة، حيث يقفون في مقدمة الصف أمام زملائهم، ويبدأ السباق، فيقول الأول (واحد)، والذي بعده (اثنان) ثم (ثلاثة)، وعندما يتم الوصول إلى الرقم (5)، لا يقول التلميذ (خمسة) وإنما (بم)، والذي بعده يقول (ستة) ومن بعده (سبعة) وهكذا، وعند الوصول الى الرقم (10) يقول التلميذ (بم)، اي ان هذه المفردة ذات الايقاع المدوي المحبب الى نفوس التلاميذ، يتكرر ذكرها بديلا عن الرقم (5) ومضاعفاته (10 ـ 15 ـ 20 ـ 25 ـ 30 ـ 35 ـ 40 ـ الخ)، وغالبا ما كان هذا التلميذ او ذاك يخطأ ويقول (15) مثلا او (30) او (45) عوضا عن (بم)، وقد يخطأ البعض في مواصلة العد الصحيح، اي انه لا يقول مثلا (46) او (51) او (76) لانه ينسى بسبب السرعة في العد، كون السرعة أهم شرط في اللعبة ومن شروطها كذلك، إن من يخطأ يغادر مكانه، وهكذا الى ان يبقى تلميذان فقط يتنافسان، يفوز احدهما أخيرا، ويحظى بالتصفيق، ويتولى معلم الرياضة رفع يده على غرار ما يجري على حلبة الملاكمة !!
يحصل في بعض الأحيان ان يتغيب احد المعلمين، وليس هناك بديل يحل محله، ويبقى الصف شاغرا، وكان مراقب الصف الذي يحمل وجها عابسا، ويتصف بروح الغدر والاحتيال (مازلت اذكر اسمه ... ضياء حاتم مالك) يتولى مهمة القيادة والإشراف على التلاميذ وكأنه هو المعلم، وعادة ما كان يعمد الى لعبة (بم)، ولأنه تلميذ مثلنا، ولكنه يمتلك صلاحية المراتب العدائية التي تختلف عن صلاحية المعلم الإنسانية.. فقد كان اول المشاركين في اللعبة، وعندما يخطأ لا يترك مكانه ويقول كما أطفال الشوارع (لو العب .. لو أخرب الملعب)، ولأننا نجد في ذلك اغتصابا لحقوقنا، ولأنه يبقى مصرا على التمسك بالبقاء، فقد كنا ننسحب جميعا من المشاركة، وبذلك تفشل اللعبة من دون حضور معلمنا العادل، لأنه حكم عادل وحريص على تطبيق قانون البم وإشراك الجميع!
انا الان على مشارف السبعين من العمر، ولي (8) أحفاد أمتعهم واستمتع معهم بلعبة البم، وأتولى دور الحكم الذي يطبق قانون اللعبة ولكن بمجرد أن أغيب عنهم بضع دقائق حتى يغيب القانون وتعم الفوضى، لان اكبر أحفادي حين يخطأ في الحساب لا يغادر موقعه ويصر على البقاء، ويهددهم بمنطق القوة (لو العب ... لو أخرب الملعب)، وكان التاريخ يعيد نفسه، وكان حفيدي هذا ليس من ذريتي وإنما من ذرية المراقب!!
|