كيف تساقطت كما حبات الرمل من كف طفل، سنوات العمر من بين يديك وانت في غفلة ، ما كنت تدري ان الحياة لعبة كلما طاوعتها وألقيت مرساتك عندها ، قادتك الى النهاية وكأن لا شيء له دوام البقاء والخلود سوى الحزن ، وها قد فجأة تقدم العمر ، ووهن العظم واشتعل الرأس تعبا ، والسنون العجاف تأخذك ساخرة الى مشارف السبعين ، لا نافذة الى فرح تخبئه قابلات الأيام ، ولا ابتسامة على الطريق وطريقك موحشة ، و (فالهم) التي اوقدت لها مصابيح العين وأسكنتها الروح أردتها أحلى الأحلام ومرفأ الرحلة الأخيرة ، اختارت دربا غير دربك ، وسكنت قصرا غير كوخك ، فما عساها تفعل بشراع منهك عصفت به الأمواج ومزقته الريح ، لا ملجأ أمامك يا سيدي العجوز سوى العودة الى ماضيك ، لا تتعب رأسك ففاطم ابعد من مرمى الصوت !. سلطان الشيبة كسر الزق وحطم الكأس المترعة ، وصلاتك لا تطفئ الدمع ، فبأي الثوبين تقارع الدنيا، وأنت تحث الخطى وحيدا في واديك المقفر لا سبيل الى خلاصك الا التواصل مع الذاكرة ، أنبل الأوفياء وأكرم من عرفت هجرتها وتعاليت عليها ونسيتها في عنفوانك ويوم عافك الخلان وأذلتك العافية ، وشعرت بالغربة وانك في عصر غير عصرك ، وفاطم تمرح في قصرها الذهبي تحت عينيك بعيدا عن كوخك البارد ، فاطم التي كانت تبني معك كوخ الأحلام في غابة نائية بين النجوم قبل ان يغتال بريق الأساور نقاوة عينيها فاغتالتك ، عندها لم يبق في بيدرك أيها العجوز الا استجداء ذاكرتك ، جئتها كسير القلب مهيض الجناح تطلب صفحها وترجو عفوها ، فما رأيت في فؤادها غلا ولا في مقلتيها جفوة ، لأنها أنبل الأوفياء فإذا بك تنزل في ضيعتها معززا محتفى به ، حتى اذا غادرتها عاودك الحنين الى بشاشتها فتنفر إليها ، ما مر يوم الا وزوادة سفرك تشد الرحال الى مضاربها تشكو إليها ما فعل الدهر ، وكيف قطعت هشاشة الأمن سبيل التواصل بينك وبين مدينتك ومسقط رأسك، فما عاد شارع الرشيد متعة المتسكعين ، والصبايا الحالمات بالجمال هجرن شارع النهر ، واعتكف ابو نواس . اعتزل الشعر والسهر توقف غناؤه للصفراء التي لا تنزل الأحزان ساحتها ، واتشحت ابنة المنصور المدللة بالكواتم والملثمين وبقايا السياسة ، وأنت مثل ثور الحقل تدور وتدور ، غريب انت عن أمك بغداد ، دونك ودونها أسوار وأسلاك وأستار وحجارة من سجيل ، أمك سجن وبوابات مقفلة ، تدخلها بإذن ، وإذا دخلتها أنكرتها وأنكرتك لا تكاد تعرفها او تعرفك لولا انك تشم حليبها ودفء حضنها ولولا أنها تشم قميصك ورائحة العشق في عينيك ، شقي انت أيها العجوز حتى في حضرة ذاكرتك ، لا يجدي بكاء الأسى ، ولا تضيء الدموع ظلمة ليلك ، فتتكئ على عصا الانتظار ، عسى يأتي يوم قريب او بعيد ، وترجع فاطم الى حلمها القديم ، وتعود أمك من غير حارس ولا سجان !!.
|