في العام الدراسي 1966/1967 التحقت بالجامعة المستنصرية / كلية الآداب / قسم اللغة العربية ، وكان واضحا من البداية ، أن مادة (النحو) هي العمود الفقري في دراستنا ، لانها الطريق المؤدية الى فهم اغلب المواد الأخرى ، بل هي الطريق إلى الإملاء السليم ، خاصة حين يتعلق الأمر بمتاعب (الهمزة) ، لانها لا تكتب مضبوطة الا بشرطين ، أولهما يرتبط بقواعد كتابتها من حيث الحركات الثلاث (الكسرة ـ الضمة ـ الفتحة) وأيها الأقوى ، وثانيهما موقع الكلمة (المهموزة) ، أي مكانها من الإعراب ، كما يصطلح على ذلك. اشهد بأنني وزملائي امضينا ثلاث سنوات دراسية ، لم نتعلم فيها من النحو شيئا، وحقدنا على (ابن مالك) والفيته وشواهده ، وعلى شرح (ابن عقيل) وتعليقاته وهوامشه ، وعلى ما يورده الرجلان من (شواذ) ما انزل الله بها من سلطان ، ومع ذلك لم (يرسب) احد منا في هذه المادة ، فقد كنا نحفظ ابيات الالفية وشروحها ونؤديها في الامتحان على أفضل وجه ، أما خارج القاعة الامتحانية ، فان من يدعي بأنه أكرم منا جميعا ، لا يستطيع كتابه سطرين من غير ان يكسر راس الفاعل او يرفع راس الفاعل !!. شيء ما تغير فجأة ببلوغنا المرحلة الرابعة ، إذ تعهد مادة النحو استاذ جديد هو الدكتور مهدي نهر ، فقد كان الرجل لا يسمح لأحد من الطلبة ان يجلس في القاعة من دون ان يشارك في نقاش او تعقيب او اجتهاد او سؤال ، وقد أزعجنا الوضع الطارئ أول الأمر ، إلا أننا لم نلبث ان اعتدنا عليه بعد زمن قصير ، وصار الواحد منا يبحث عن كتب ومراجع في النحو ، غير الألفية ، وتعلمنا في بضعة اشهر ما لم نتعلمه في 3 سنوات وصار الخطأ النحوي يخدش اذاننا اذا ما سمعناه من المذيع (اما المذيعة فلم نكن نصغي إلى كلامها ، بل ننظر إلى مفاتنها الجميلة) !. على ان الأهم من ذلك ، هو أن الرجل كان لا يسمح لأحد من الطلبة بدخول القاعة بعده ولا مغادرتها إلا عند الضرورة القصوى اما اذا تخلف احد عن حضور محاضرته من دون عذر مقبول ، فانه يقيم الدنيا ولا يقعدها ولا يتردد عن معاقبته حتى لو كان ظهر الطالب من حديد او كانت الطالبة ابنة وزير وهذا ما لم تعهده سابقا ، وما زلت اذكر كيف حاول احد زملائنا يوما مجادلته ، زاعما أن الطالب الجامعي مثل عضو البرلمان يمتلك حق الحضور الى القاعة ومغادرتها وحق الغياب متى شاء وما زلت اذكر كيف رد عليه منفعلا (انا لا اريد طالبا يأتي نهاية السنة ليسأل عن شهادته مثل عضو البرلمان الذي يحضر نهاية الشهر ليقبض راتبه ، والحقوق التي تتحدث عنها لا تعني الضحك على اهلك والأساتذة والكلية والشعب ، بل هي قبل اي شيء اخر ان تحترم هذه الاطراف التي اتت بك الى حرم الجامعة أو قبة البرلمان ، وان تكون أكثر من غيرك التزاما بالحضور والمناقشة والعطاء ، وإلا فان مكانك البيت أو الشارع) . كم كان اخلاصا من هذا الرجل برغم ما كنا نظنه قسوة الان فقط بتنا ندرك بأنه لولا الدكتور نهر لبقينا نطالب بحقوقنا فقط ولا نسأل عن واجباتنا ، ولبقينا ندخل ونخرج ونغيب ، ولكننا لا نفرق بين الضمير الظاهر وبين الضمير المستتر .
|