نوبة حادة من البكاء، وزخات دموع تركت مساربها على وجوهنا قبل ان تشتبك الاذرع والشفاه في عناق دونه عناق الأحبة، وأية غرابة في هذا وصديق عمري نفى نفسه في بلاد الغربة 20 سنة، وانقطعت أخباره عني حتى أرقتني المخاوف والظنون.. ولكن حمدا لله، ها هو يعود سالما معافى والحق فان حنيني العظيم اليه لم يفتر، ولهذا حرصت على زيارته مرة او مرتين كل اسبوع، ولم اكن أحدثه عن أوضاعنا في اثناء غيابه، فهو يعرف كل شيء عن العراق وأحداثه وحروبه وحصاره ومعاناته، بل كنت استمع الى أحاديثه عن سنوات الغربة، وتنقلاته بين مدن العالم وعواصمه، وكيف عانى من الجوع والذلة والتشرد، قبل ان يلتحق بالمعارضة، وتتحسن اوضاعه المادية والمعيشية، ويعمل على اسقاط النظام، ثم كيف قرر العودة الى العراق بعد تحريره بيومين فقط !!لم يتغير صديقي (ابو ناجي) كثيرا، سوى انه تعلم من سنوات الغربة، كيف يكون واضحا وصريحا ومباشرا، وتخلص إلى حد كبير من المجاملات الزائفة واللف والدوران والحياء والخجل والتردد.. ان ما يجري على لسانه هو ما يدور في رأسه، ولذلك كان يقول لي، انه لا يجب رؤية القوات الأجنبية في العراق، ولكن لولاهم لم نتخلص من الدكتاتورية، ولم نحصل على حريتنا، وعليه فأنهم (قوات تحرير) وليسوا قوات احتلال، حتى لو اطلق عليهم مجلس الأمن بالخطأ هذه التسمية، ولم يخف عني، انهم كافؤوه على مواقفه الوطنية في الخارج، وعينوه مستشارا براتب (15) الف دولار شهريا، وهو (راتب مخيب للآمال ودون استحقاقه بكثير) على حد تعبيره !!اشياء كثيرة اطلعني الرجل عليها، من بينها سلسلة بحوث معدة للنشر ـ قام فعلا بنشر قسم منها ـ يتناول بعضها التجارب العملاقة للفدرالية والديمقراطية في العديد من بلدان العالم التقدمية، فيما كرس بعضها الاخر للهجوم على العراقيين الذين يرفضون العودة الى الوطن بعد (التحرير)، ووصفهم بعديمي المسؤولية والأنانيين والنفعيين، بل قال عنهم في أحد بحوثه، انهم يعانون من (فقر الدم الوطني)، ولكن هجومه الاعنف انصب على الكتاب العراقيين في الخارج والداخل، ممن ينتقدون بشدة ممارسات القوات متعددة الجنسية لاخفاقها في ادارة البلد، وانها وراء انهيار الدولة وإشعال الطائفية، ولم يتورع عن نعتهم، بأنهم مجموعة من أصحاب الاقلام الضبابية التي يتعاونون مع الارهاب ويتلقون معونات مالية كبيرة من جهات مشبوهة !!ما كنت معنيا بأفكاره ومواقفه، فانا رجل أخاف من السياسة أكثر مما اخاف من أمزجة رؤساء التحرير، ولكنني كنت معجبا بجرأته وصراحته، لان معظم الكتاب الذين تولاهم بالهجوم، هم من زملائه وأصدقائه المقربين، ويعرف جيدا حجم وطنيتهم، وانهم لا يمتون بصلة الى الارهاب والارهابيين، ولا يتلقون دعما من جهات مشبوهة، غير ان اعظم ما اعجبني في جرأته وصراحته، هو قراره المفاجئ بمغادرة العراق وعدم العودة نهائيا، وليس فقط لأنه حصل على عقد عمل بثلاثين الف دولار في الخارج على حد زعمه، وانما لكونه كذلك قدم ما عليه من تضحيات لهذا الوطن العزيز، وعلى الآخرين إكمال المسيرة !!
|