تحت إلحاح الأهل تزوجت عام 1968 وأنا ابن (23) سنة، وكنت معلما حديث الخدمة، راتبي اقل من 40 دينارا، أصرفه على أسرتي وأدفع أجور الدراسة الجامعية، وكنت عبر ضغط النفقات أصل بالراتب الى منتصف الشهر، وأعتمد في النصف الثاني على القروض الخارجية! البحث عن عمل مؤقت في العطلة الصيفية، هو الحل الوحيد أمامي، وبعد جهد جهيد، توسط لي أحد الأصدقاء عند قريب له يدعى السيد فاضل السامرائي، يعمل مقاولا مع شركة بلغارية، تقوم بمد أنابيب المجاري، لكي يوافق على تشغيلي عاملا أدفع عربة الأسمنت... وفي الموعد المحدد ذهبت الى موقع العمل، وكان أول من صادفته هناك، مهندس بلغاري بشعره الأصفر وبشرته البيضاء، وشعرت بالارتباك، فأنا لا أعرف ما هي اللغة التي يتحدث بها البلغاريون، فكيف سأسأله؟ وفكرت أن اخاطبة بالانجليزية، على الرغم من إنني لا أتقنها، وهكذا رتبت على عجل جملة مفادها (رجاء... أين أجد السيد فاضل السامرائي) ، يعلم الله وحده كم تضمنت من أخطاء، نظر الرجل اليّ بانزعاج وقال، (خوية.. مستر فاضل هناك) وأشار بأصبعه الى المكان وهو يدردم (احنة العربي ما مدبري... النوبة علينا الأفندي يرطن بالانكليزي!)، وبعد التحاقي بالعمل، اكتشفت أن المهندس البلغاري هو عامل عراقي من مدينة الثورة... وقد ضحكنا كثيرا !! التقيت السيد فاضل، ورحب بي ترحيبا كريما، وسألني أن كنت أجيد اللغة الأنجليزية، فأعربت له عن أسفي... هز الرجل رأسه حزنا وقال لي هناك عمل يناسبك جدا، وبأجور جيدة، ولكن ما الفائدة، أنا مضطر الى تشغيلك مثل العمال الآخرين مع الأسف) وكرر عبارة (مع الأسف) مرات عدة، وأشهد أن الرجل عاملني معاملة استثنائية، بحيث كانت عربة الأسمنت الوحيدة التي توضع فيها كمية قليلة هي عربتي!! على أية حال، الخيرون كثيرون، ولكن الأمر المهم حقا، هو انني بعد قيام قوات التحالف بتحريرنا تعلمت اللغة الأنجليزية، قراءة وكتابة ونطقا وتخاطبا وترجمة، وذلك بحكم الاختلاط الواسع معهم في شوارعنا ومقار عملنا وبيوتنا وأحلامنا، حتى أصبحنا نتفاهم بالمفردات والمصطلحات الأنجليزية، فاذا طلبت من زوجتي مثلا ان تهيء لي (ثريد البامية) على الغداء أجابتني (ok) ، ومع الأيام، ونتيجة تعاملي المستمر مع هذه اللغة، بدأت شيئا فشيئا أنسى اللغة العربية!! الحقيقة دفعتني ظروفي المادية الصعبة في العام الماضي خاصة بعد أن ضحكت علينا الحكومة في مسألة تعديل رواتب المتقاعدين وزيادتها ـ الى مراجعة العديد من الدوائر، وعلى وجه الخصوص، الفضائيات العراقية، بحثا عن فرصة عمل، وفي كل مرة يسألني موظف الاستعلامات (حجي... هل تجيد العربية؟) فأعتذر له لأنني نسيتها، ولكنني أبادر وأخبره متباهيا، انني ضليع بالأنجليزية، إلا انه يضرب كفا بكف ويعرب عن أسفه، لأنهم يحتاجون الى من يتقن العربية، ويظل يكرر عبارة.. مع الأسف.. مع الأسف..مع الأسف!!
|