ليس مفاجئا أبدا لأي عراقي هذا البرود الرسمي والسياسي. بل هذا الصمت المزري إزاء المواقف المريبة للجنرالات الذين اختاروا الانسحاب أو الفرار والهرب. أو الذين فكروا بأقدامهم ولم يفكروا بعقولهم. لكن المفاجئ هو هذه المواقف الشعبية الرخوة والمهادنة. نعم إنه لأمر مفاجئ ومحير أمر هذه الذاكرة الجماهيرية المعطوبة، التي تميل دائماً لنسيان الكوارث والمصائب، وتتغاضى عن الفاجعة الأخيرة التي راح ضحيتها آلاف الجنود المخذولين أو المتروكين بلا قائد، والمتخبطين وحدهم على غير هدى في هذا التيه العظيم. فنحن شعب سريع النسيان. من كان يصدق أن القادة يهربون من الميدان، ويلوذون بالفرار بمواكبهم المهيبة، التي سدت الثغور وأغلقت الطرق. لقد توسمنا أن يقتدي الجنرالات بالقادة الشجعان، لكنهم كانوا أسرع من البرق في الفرار. تعيدنا ذاكرتنا عندما نكون في عرض البحر إلى عام 1939، فنتذكر شجاعة قائد البارجة الألمانية (غراف سبي)، وقائدها الكوماندر (هانس لانغسدروف)، الذي كان حازماً في إنقاذ أرواح طاقم سفينته الحربية، فاتخذ قراره الشجاع بإخلاء البحارة والسماح لهم بمغادرة البارجة، ثم أطلق الرصاص على نفسه، مفضلا الموت على ترك جنوده يواجهون الموت بقنابل الأسطول البريطاني. ثم تعيدنا ذاكرتنا البحرية إلى حوض البحر الأحمر وخليج السويس، ففي عام 1973 كان قائد سرايا الضفادع في الجيش المصري هو الدكتور أركان حرب (إبراهيم شكيب)، الذي أنقذ بذكائه وحنكته أرواح آلاف الجنود المصريين من محرقة حقيقة بالنابالم، وذلك عندما استعمل مادة سريعة التصلب أغلق بها المواسير من نهايتها، كانت تلك المواسير تطل مباشرة على قناة السويس، فعبر القناة تحت الماء، وتسلل ليلا مع رجال الضفادع، فعطلوا المنظومات الدفاعية لخط بارليف. تُعد تلك الخطوة من أقوى مفاتيح النصر في حرب أكتوبر. هذه أمريكا أنتجت قبل أعوام أفضل أفلامها الحربية الذي يصور مشاهد ميدانية لإنقاذ أحد جنودها (جندي واحد)، هو الجندي (رايان) من اخراج الفنان (ستفين سبيلبيرغ). ربما تطول بنا المقارنة بين المواقف الشجاعة والمواقف المتخاذلة، وها نحن اليوم نتكبد الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات بسبب المواقف المخزية لقادة فاشلين، كانوا أول الفارين من أرض المعركة. يقال أن موكب أحد هؤلاء سد الشوارع المؤدية إلى نادي الصيد في قلب بغداد حيث كان يقيم حفلاً ساهراً للذين فقدوا ذاكرتهم الوطنية بمناسبة زفاف نجله الأصغر. وهو يعلم علم اليقين أننا سننسى ما حل بنا من كوارث، وما لحق بنا من ويلات ومصائب. ألم أقل لكم: أننا شعب سريع النسيان ؟. ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين
|