في عام 1970، كنت قد أنهيت سنتين من (خدمة الزواج الإلزامية) وكانت الخمسون دينارا التي أتقاضاها راتبا شهريا عن وظيفتي في مهنة التعليم، تتبخر بسرعة الضوء بين مصروف البيت والإيجار، وما تبقى في ذمتي من أقساط مستحقة عن ديون استلفتها من الحكومة واقترضتها من الأصدقاء، لإتمام متطلبات الزواج بنجاح ساحق، ولهذا حين حصلت على عمل مسائي بصفة (مصحح) في جريدة الثورة، باجر مقطوع قدره (30) دينارا، تفتحت أمامي أبواب الجنة، وتغيّر وضعي الطبقي تغيّرا جذريا، وانتقلت من البروليتاريا الرثة إلى البرجوازية الوطنية، حيث تحررت من عبء الأقساط والديون، وصارت اللحوم بأنواعها تزور مائدتنا مرة كل أسبوع، والاهم من ذلك كله، اشتريت سوارا من الذهب لزوجتي بمناسبة الذكرى الثالثة لحكومة الشراكة الحقيقية بيننا، بدلا من (المعضد) البلاستيكي!! في عام الرخاء ذاك اعني مطلع السبعينات، تعرفت على الشاعر الفطري الراحل عبد القادر العزاوي، الذي كان يعمل مصححا في الجريدة نفسها، والعزاوي شاب لم يكمل مرحلة الدراسة الابتدائية، ولكنه موهوب في كتابة الشعر، وصدر له ديوان أو ديوانان، لا اذكر جيدا، غير أن حظه من الثقافة متواضع، أما حياته العامة فاقرب ما تكون الى العبث والفوضى والصعلكة، لم تؤهله للزواج يومها وتكوين أسرة، إلا بعد سنوات طويلة، ولكن عبثه فردي، غير مؤذ، فقد كان يقبض راتبه رأس الشهر ويقوم بصرفه إلى آخر دينار في اليوم ذاته على تناول أنواع الاطعمة والفواكه والحلويات وشراء الملابس والكتب، وبعد يومين أو ثلاثة يعرض مشترياته علينا للبيع بنصف سعرها قبل أن يرتدي منها قميصا أو يقرا كتابا، والحق فان هذا الرجل الذي يلقبه الجميع (قدو العظيم) كان، إنسانا وديعا بسيطا، كريم النفس، ميالا الى المرح، وتسكنه روح الدعابة مع احساس داخلي بالرعب (ربما) كان سببه حياة السجن التي امضاها في (نقرة السلمان) ثم سجن الحلة بعد انقلاب شباط 1963 وكنا في اوقات الفراغ نستمع بصوته وهو يقلد فريد الاطرش بطريقة مذهلة! بعد أربعة أشهر او خمسة على عملنا معا، توطدت العلاقة بيني وبينه ولعلني أصبحت اقرب الزملاء اليه، مع أنه اقدم مني، وذات يوم سألني ان اقرضه دينارين على ما اظن حتى يحين وقت الراتب، فأعطيته المبلغ وعندما حل الراتب لم يرجع الدين الذي في ذمته، ولم استطع مطالبته حياء، غير ان المفاجأة، انه سألني من جديد إقراضه مبلغا لا اذكره، ولم أتردد عن تلبية طلبه واستمر على مثل هذه الحال، يقترض من دون ارجاع القرض، او حتى الإشارة الى الديون القديمة او الاعتذار عن تأخيرها، وبلغ به الأمر ان يقترض مرتين وثلاثا في الشهر الواحد، ولهذا حين جاءني في طلب مبلغ جديد، ركنت حيائي جانبا، وقلت له متسائلا (قدوري شنو القضية.. احنه 16 واحد بالقسم، ليش تداين بس مني؟!)، رد علي والابتسامة تعلو وجهه (عيني ابو عمار... الجماعة كلهم يطالبوني بالدين.. أنت الوحيد تظل ساكت)، وضحك وضحكت، وأعطيته المبلغ!! رحم الله العزاوي كم اشتقت إليه! إنسانا نقيا لذيذ الطبع والصراحة.
|