بعد قرابة 10 سنوات من العمل الصحفي ، حاولت الاقتراب على حياء وخوف شديدين من كتابة «العمود « كان ذلك عام 1970 وقد استهواني هذا الفن استهواء غريبان ولم أكن اعرف يومها بأنه الفن «الأصعب « في توصيف الانجليز وان جمال عبد الناصر كان يقرأ صباحا عمود هيكل ليعرف ماذا يجري في العالم ، ويقرأ عمود مصطفى امين ليعرف ماذا يحدث في داخل مصر . اشهد بان معاناتي معه كانت مريرة ، ولم استطع الإلمام حتى هذه اللحظة بكامل شروطه ، وإذا عدت بالذاكرة الى البدايات فلن اتحرج من الاعتراف بان أساتذة الصحافة وأسطوات العمود قد اخذوا بيدي وصححا الكثير من هفواتي وتجنياتي ، بل ان احدهم ـ من باب الرأفة والمساعدة ـ نصحني ان ابذل وقتا اطول مع فنون الصحافة الاخرى الى ان تنضج تجربتي ثم احاول حظي مع العود !. اقسم بأنني ما جلست الى كاتبة عمود صحفي حتى هذه اللحظة إلا وعاشرني القلق ، ذلك لان الفكرة واختيارها وتحديد وقتها المناسب ، وطريقة إيصالها تؤلف سلسلة مترابطة من العناء ، وربما كان هذا الفن على وجه الخصوص يتطلب دقة محسوبة في كل شيء الى حد «انتقاء المفردة « التي تؤدي الغرض المطلوب ضمن سياق الجملة اولا ، والسياق العام ثانيا . اعرف بأنني منظر «بتشديد الظاء» اعلامي سيء فهذا الموضوع يمكن ان يتحدث فيه وعنه مثلا استاذي الدكتور هاشم حسن او ابني وصديقي الدكتور سعد مطشر لكوني لست إعلاميا أكاديميا ، ولكن الأمور باتت غير قابلة للسكوت ، فقد طرحت حرية الصحافة ، وكثرة المطبوعات التي أغرقت السوق ، عشرات المئات من كتاب الأعمدة بصورة مفاجئة ، وبات الدخول الى عالم الصحافة يبدأ من العمود، لانه كما يبدوا هو الاسهل من وجهة النظر الجديدة ، حتى أصبحت الوزارة او المؤسسة التي تصدر نشرة او مطبوعات لا تكتفي بوضع اسم الوزير او المسؤول المعني رئيسا لهيئة الامتياز او التحرير ، بل تقدمه على انه كاتب افتتاحيات وأعمدة من الطراز الأول ، وحتى صار رؤساء تحرير الصحف والمجلات يكسبون ود السياسي او المسؤول الحكومي عن طريق تكريمه بعمود صحفي بغض النظر عن كون عموده عبارة عن « عريضة» تفيض بالحكم والنصائح والأحاديث المضحكة ، عن انجازات مؤسسته ، وبناء على ذلك ستضطر النقابة استنادا الى قانونها وربما اضطرت فعلا إلى منح ألاف الهويات النقابية لهم ، ما داموا يمتلكون المستندات الثبوتية ، الأعمدة و يدفعون بدل الانتساب ، وبذلك أصبح منتسبو النقابة اكثر عددا من المشتبه بهم في السجون ، وسيغري هذا الانفتاح كتاب العرائض على وفق المعايير ذاتها ، بالحصول على هويات مماثلة ، وهم يستحقونها فعلا ، لأنهم يكتبون أعمدة تنقل هموم الناس الى المعنيين ، وهكذا سيأتي اليوم الذي تغير فيه النقابة عنوانها الى نقابة « كتاب العرائض الصحفيين «.
|