صديقي المهندس المعماري، قاسم محسن فياض، رجل في الستين من عمره على قدر عال من الثقافة العامة، أما الثقافة المعمارية الخاصة فتكاد تكون نادرة لأنه مهووس بتخصصه، يقرأ ويطالع ويتابع كل ما ينشر أو يعرض حتى بات عقله موسوعة لطرز العمارة العربية، والإسلامية، والعراقية، والرومانية، والأوربية ولأنواع الفنون المعمارية القديمة والحديثة والمعاصرة في العالم، وهذا الهوس الثقافي الجميل كان مشفوعا بهوس من نوع آخر يتمثل بإعداد تصاميم لمشاريع سكنية عملاقة، فهو منذ أكثر من ثلاثين سنة عاكف على تهيئة مثل هذه المشاريع وتقديمها إلى الدولة قناعة منه وإيمانا، لأن الدولة لو أخذت بها فسوف تتجاوز أزمة السكن؛ ولأن التصاميم والأفكار التي كان يقدمها (بصورة مجانية ) كانت من السعة والشمول والتكامل، فقد كان الرجل يدرس كل صغيرة وكبيرة ولا تفوته أدق التفاصيل بدءا من السكن العمودي والأفقي ومواد البناء،الكلف المادية التي تتحملها الجولة ويتحملها المواطن، مروراً بالمواقع التي تقام عليها الوحدة السكنية، ونوعية التصميم الملائمة لمناخ العراق. والموافقة لعادات وتقاليد المجتمع، وانتهاء بالحاجة الفعلية للبلاد على مدة خمسين سنة، ومن هنا كان يجمع معلومات رقمية وعلمية شاملة من التعداد العام للسكان، وكم يصبح عدد النفوس بعد عشر سنوات وعشرين سنة إلى حد خمسين سنة، مثلما كان يجمع معلومات مماثلة حول بيئة العراق الجغرافية والمناخية الثقافية والاجتماعية . المهندس فياض، منذ ثلاثين سنة وهو يقدم أفكاره ومشاريعه إلى الدولة، وهي لا ترد عليه، ولا تقول له شكراً، ولا تمنعه، بل اكتفت بإعطائه (الإذن الطرشة) كما يقولون وكأنها تعاقبه على وطنيته وحرصه واندفاعه المخلص، ومع ذلك لم يتوقف الرجل ولم يضجر ولم ييأس، وكأنه ينتظر يوماً في عالم الغيب يتحقق فيه حلمه، ويرى جهده على الأرض : آخر مرة انتهى فيها صديقي من تخطيط مشروع سكني جديد، كانت قبل شهرين، وقد أطلعني الرجل على تل من الأرقام والمخططات التي فاتني استيعاب الكثير منها، ولم تعلق في ذاكرتي إلا مفردات قليلة، على غرار أن حاجة العراق إلى الوحدات السكنية تبلغ (34 مليون و60 ألف) وحدة سكنية على مدى الخمسين سنة المقبلة، حيث اخذ بالحسبان نسبة الزيادة السنوية للسكان، وان هذه الوحدات موزعة على عموم المحافظات ،وبمقدور المشروع توفير (9) ملايين فرصة عمل بين ثابتة ومؤقتة .... الخ الحقيقة لم يستوقفني شيء إلا الرقم(60الف) وحدة سكنية وكيف استطاع أن يحسبه إلى جانب (34مليون) وحدة خاصة وان يتحدث عن مستقبل بعيد ولذلك استوضحت منه عن هذا الرقم الغريب، أجابني الرجل بكل ثقة (إن هذه الستين ألف وحدة ، ستكون لضيوفنا أعضاء السفارة الأميركية ) وقد اعترضت على ذلك؛ لأن الرقم المعلن لهم هو (20الف) أميركي فقط، إلا انه بالثقة نفسها أجابني لقد أخذت بنظر الاعتبار الزيادات السكانية المتوقعة بينهم بعد خمسين سنة !!
|