صدقنا من قبل هجرة تلك العائلة، فرارا من صخب مولدات الشارع الميسور، وما يؤشره هذا الصخب من أخلاق غليظة وجلفة.. ولم نستغرب هجرة العائلة الأخرى من الكوت التي غرق بيتها المتواضع بمياه الجيران الثقيلة ..ولكن بدون إدانة للجيران ولأخلاقهم.. ما داموا مجبرين، ولا خيار لهم إزاء انعدام الخدمات البلدية هناك.. بل هو نفاد صبر وجزع ....والخ... مع الم وغصة وأسف على فراق الناس والتغرب عنهم ... وقد وجد مهاجر ثالث ان مبررات (المترف) أقوى من مبررات نظيره الفقير الذي فاض بيته بالنجس والمياه الثقيلة.. ما دام بآصرة حميمة بناسه ومنطقته.. إذ لا اقسى من فقدان الثقة بالمجتمع... وانقطاع الصلات به.. واخذ هذا الشعور مدياته عند اتساع هذه الحالة وتخوف المرء من وقوعه فريسة لقريب وصديق... ومن خيبات متوالية ببروز وجوه قبيحة من ذات الوجوه التي كانت جميلة ... ومن ألفة واعتياد وضع أقنعة الصفيح.. ومن ثم نزعها ورميها بعد أن تحولت الوجوه ذاتها الى صفيح ... ولكل عراقي حكاياته مع ضروب الأنانية والتوحش والنذالة.. وفقد الدهشة لكل ما يسمع ويرى ويعيش... ولا غرابة ان يتمخض الجبل عن فأر ...والكريم عن دنئ.. وابن الغنى والجاه عن شحاذ ذليل... والتقي المتصوف عن مرآب وسخ... وان تحري ودراسة أبطال الفساد الحكومي،يكشف قطعا عن طبائع نذالة ...نذالة كانت مستورة ..ومغطاة. ووفرت محنة العراق أفضل المناخات لبروزها واضحة جلية للعيان.. ويظن المختصون أن فقدان التواشج والتفاعل والعلاقات الطيبة ترمي بالإنسان الى حضيرة الحيوانات.. فالإنسان وحيدا هذا مصيره.. فإنسانيته بالمجتمع.. ومن العلماء من يحيله الى شيطان خارج المجتمع.. وربما لم يترجم بعض المهاجرين مشاعرهم فأحالوا أسباب نزوحهم وفرارهم وهجرتهم الى التهديدات وصعوبات العيش، والعلل المادية.. فقوة الآصرة الاجتماعية هي مصدر مهم في قرار الهجرة.. وان العيش وحيدا في الصحراء اهون واقل وقعا على النفس من العيش وحيدا في المجتمع.. ومن العراقيين من بات متوجسا من وثوب الكائن النذل من عين صديقه وقريبه ومن ذاك الذي ظنه عملاقا.. فهل يحق لنا الاعتقاد بان الفساد الرسمي قرين النذالة ونتاج ضمور القيم الاجتماعية وتفكك العلاقات..؟ لا ينزلق المرء الى الرخص والابتذال قبل أن تتقطع خيوطه وأواصره بالمجتمع ...سواء لأسباب تربوية او فسلجية، ولا يشغله حينئذ غير مطالبه الذاتية او الجسدية،ويغدو كائنا بيولوجيا او بهيميا .. وسيرى نفسه بعين المجتمع ضئيلا مبتذلا بلا أي اعتبار.. وهذا هو مشروع الدمار الشامل عندما تقع بيده سلطة، أية سلطة .. كاتب في عيادة طبيب يضاعف من مرض المراجع ..او مدير تتولى أنفاسه العفنة تسميم مكاتب المديرية.. او سياسي يريد أن يتخلص من جرذيته ويتضخم بالمال المسروق وبالتطلعات المتراكضة كأحلام المجرمين، ويجزم الاجتماعيون بقرب الوحيد اجتماعيا من الموت.
|