الكاتب : حسن العاني

محملا بطقوس الأضحى وفرحة الأطفال مضى العيد، ولكنه لم يغادر ذاكرتي منذ ستين سنة مرت مثل حلم قصير أو كلمح البصر، كنت يومها بعمر الثامنة، انتظر بلهفة أقوى من قدرتي على الصبر، انتهاء (العائلة) من فطورها الصباحي كي اقبض (عيديتي)، ذلك المبلغ الاستثنائي الذي لا احصل عليه الا مرتين في السنة مع ظهور الهلال، فهل لهذا السبب ما زلت اعشق هلال العيد ؟! انها كرخ بغداد، وانها ثلاثة دراهم مرة واحدة، تعادل ما أتقاضاه من (يوميات) طوال خمسة عشر يوما، وفي ذلك العام الكرخي الذي بلغت فيه سن الثامنة، سمحت لي امي ان اذهب الى العيد، وكان العيد ساحة ترابية قريبة من مقبرة الشيخ معروف، تقوم عليها عربات الاطعمة والعصائر والحلويات والشامية الحمراء وباعة الفرارات وفستق العبيد والمكاوية والجرك والبادم والمعجنات، وثمة شباب في تلك الفسحة الترابية التي تدعى (الجوبه) يحاولون الضحك على الاطفال وافراغ جيوبهم من الدراهم، عبر انواع شائعة من القمار مثل (حظ يا نصيب وسي ورق واللكو... وغيرها)، ولم تسمح لي بالذهاب الى العيد الا مع أبناء خالتي، كانوا اكبر عمرا مني، وهي توصيهم وتعيد وصيتها، ان يأخذوا بالهم من الولد فهو صغير!! لا شيء ابهر الولد الصغير في الجوبه، سوى الاحصنة الدوارة والاراجيح ودواليب الهواء، لم تشرد عيناه الى (مفاتن) الساحة، ولم تطلب نفسه شيئا من حلوى او طعام او شراب، فقد توقفت مشاعره عند الالعاب، ومن بين الالعاب كلها لم يستهوه غير دولاب الهواء اي شيء غريب ومخيف في تلك الكراسي او المقاعد الخشبية التي تصعد (بالصغار) الى عنان السماء، ثم تهبط بهم الى اقرب نقطة من الارض! كان الولد مرعوبا من اللعبة، ولكنه مسحور بها، وانتصر السحر على الرعب، اذكر ذلك جيدا، وكان ما حدث جرى اليوم او البارحة، تقدمني خوفي الى صاحب الدولاب، وأعطيته (10 فلوس) اجرة الصعود او الركوب، واخذت مكاني على المقعد، وبدأ الرجل يدير الدولاب بيديه، وما هي الا لحظة خفق قلبي معها نشوة حتى بلغت القمة، كل شيء من حولي الناس والكسبة وعربات الدوندرمة وباعة بيض اللقلق والعنبة والشاميةـ يبدو صغيرا متقزما، ودون مستوى النظر، كنت مغمورا بالسعادة لانهم في الاسفل وانا في الاعلى، ولانني أراهم جميعا اقل من حجومهم و... وما هي الا لحظة او بضع لحظة حتى هبط الدولاب سريعا وهبط قلبي معه، وشعرت انني اصبحت واحدا منهم لست اعلى ولا فوق ولا افضل من اصحاب العربات ولاعبي القمار وباعة قمر الدين، ومع كل صعود وهبوط تتغير نظرتي ومشاعري، وحين انتهت اللعبة، وغادر الاطفال كراسيهم رفضت النزول وتمسكت بمقعدي، واعطيت الرجل (10 فلوس) جديدة وهكذا واصلت اللعبة (15) مرة وأنفقت آخر فلس في جيبي، ولو كنت امتلك خزائن الأرض او السلطة لصرفتها على دولاب الهواء وأوقفته عن الدوران وانا في القمة، فليس أعظم من ان يكون الاخرون تحتك أقزاما وانت فوق مستوى النظر !!.