نحتاج أحيانا الابتعاد عن الشيء لكي نراه ..وقد يكون للابتعاد الزمني مثل هذا ..فالغائب عن المريض يرى تغيراته أفضل من مرافقيه ..ويتفاجأ الأقارب بتغير الطفل الذي غابوا عنه ...والمبتعد والغائب عن العراق يصدمه وضع مجتمع ما بعد الاحتلال ... ولا يكاد يتعرف عليه ...فأين تلك العلاقات الودودة والتواصل الحميم والسهرات التي تخلو من حديث التفجيرات والتهجيرات والتزويرات وأعمال النهب؟؟ كانوا يتواصلون ويتفاعلون وكأن غريزتهم الاجتماعية بمناسيب اعلى من بقية البشر ...فكانوا يقولون ان العراقي سمكة وماؤها المجتمع ...إلا انه انتهى الى ما يشبه العزلة ... وفقدت لقاءاته حرارتها وطعمها وهناءتها ..وبدت وكأنها أداء واجب لا استجابة لنداء قلب والى إرضاء حر للغريزة الاجتماعية .. وعندما أنحى العراقي المغترب باللائمة على النخبة المثقفة وأبدى استغرابه وامتعاضه من تواصل بعض المبدعين النفعي... وأين غادرت الصداقة والإعجاب الشديد والزيارات العائلية بينهم؟؟ تبخرت جميعها مع تغير الظروف والمصالح ؟؟ كان الرد على هذا المغترب الزائران غربته وابتعاده قد وفرت له من جانب أن يرى ما فعلته السياسة في المجتمع وبما صدمه ,الا ان هذه الغربة والابتعاد الطويل قد عزلته عن الإرهاصات والاحتدامات والشقاء الذي فعل فعله ...وانه اذا كان العراقي سمكة ماؤها الجو العام او المجتمع فان الفساد قد افسد المناخ والجو العام وعكر الماء حتى ليتساءل المرء كيف للسمك ان يعيش في هذا الآسن ؟؟؟ ويحق للمراقب الاجتماعي ان يرى المعجزة في مجرد استمرار العراقي في أداء الشكليات الاجتماعية ... ومعرفة أعماق ومشاعر العراقي وما آلت اليه نفسيته ونظرته للحياة تدفع البليد والقاسي للبكاء ..ولكن لا يمكن لهذا الباكي ان يكون من بين الطائفيين والفاسدين واللصوص ... واغلب الظن انه لو لم يكن الأمر كله برنامجا امريكيا لحزن العالم وبكى على مصير مجتمع هو وريث أولى واكبر الحضارات والذي عاش عائلة لأكثر من ستة آلاف عام ...ربما كان القصد الأمريكي تقديم درس عملي للبشرية ان ما هو اخطر من اسلحة الدمار الشامل هو اشتغال غير الموهوبين ..والجهلة والمتعصبين والطائفيين في السياسة وتصديهم للحكم .... باستثناء الثملين بالهبة الأمريكية فان العراقيين يرزحون تحت غيمة من الهم والتشاؤم ,وفقدوا البهجة ونسوها وابتعد عنهم الفرح ,والفرح جماعي ,والمجتمع يتنفس إفرازات وزفير الفاسدين والعدوانيين ...وغاية أحلامه لا البهجة والفرح بل النجاة بجلده في بلد يقبله لاجئا.
|