على وفق الشهادات المدرسية ، فأنا من طلاب الصف الثالث المتوسط ، في ثانوية الفلوجة عام 1959، التي جئتها نقلا من بغداد مع أسرتي ، هربا من أوضاع العاصمة المضطربة ، وكان عمري يومها اقل من 15 سنة، وقد اختفى بي طلاب الثانوية ، واكرموا غربتي ، فمن دعوة الى المقهى، سرعان ما تطورت الى دعوة غداء او عشاء، وبالغوا في تكريمهم ، فاهداني احدهم كتابا اسمه (في سبيل البعث) وتبرع الآخر بمظروف يحتوي على منشور (بعثي) قم دعوني ذات يوم الى حضور مجلس من مجالسهم الثقافية، وتوالت الدعوات والكتب والمنشورات ، حتى طالبوني مرة بدفع اشتراك شهري ، أطلقوا عليه اسم (تبرع للمناضلين) ، اعتذرت عن دفعه فانا سلسل عائلة لا تمتلك رغيف خبز فائضا عن حاجتها ، وتم قبول اعتذاري على مضض، وقد ظل ذلك الاعتذار نقطة سوداء في روحي النضالية !!. وكان ما كان ، وحدث انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 ، بقيادة عبد السلام عارف ، وذهب ثلاثة أرباع أصدقائي البعثيين الى السجن ، ولم اعد أتسلم منشورات ، ولم يعد احد يعيرني بالنقص الحاد في روحي النضالية ، وكنت يومها قد بلغت الثامنة عشرة من العمر ، وبدلا من استثمار هذه المرحلة الشبابية ، التي لا تأتي غير مرة واحدة في الحياة ـ بإقامة شبكة مشبوهة من العلاقات العاطفية ، انصرفت الى عوالم الفكر والفلسفة والثقافة ، وقرأت الصوفية فسحرتني طقوسها ، حتى أطلقت لحيتي ومزقت ثيابي واعتزلت النساء والدنيا ، لولا ان كتابا في الوجودية وقع بين يدي واطلعت عليه فأغراني وقادني الى كتاب ثان وثالث وسارتر وكامو ، وتحولت الى وجودي منفلت ،فرتقت ثوبي وحلقت لحيتي وتعطرت بعطر الحرية ، لولا ان صديقا طلب مساعدتي واخفى عندي كتابا لماركس، خوفا من السلطة العارفية، وكان بيتي مثل بيت ابي سفيان ، من دخله فهو امن ، وفي مدة أسبوع واحد امسى بيتي مأوى لماركس وانجلز ولينين وفهد ورفاقهم ، وتعرفت عبر ضيوفي المطاردين على الديالكتيك والبروليتاريا الرثة والمادية التاريخية ، ولان تلك الافكار سيطرت على عقلي وسلوكي ، فقد هجرت سارتر، وطلقت الصوفية وثرت على البعث، ورحت ارتدي ربطة عنق حمراء، وحذاء احمر ، وانظر الى الآخرين بعين حمراء ، وكان اعتراضي الوحيد على تلك الأفكار الحمر ، هو انها تلغي الحكومة عند قيام النظام الشيوعي الاممي ، وتلغي بالضرورة الجيش والشرطة والأمن والمقاومة الشعبية والحرس القومي ومجالس الإسناد وحرس الحدود ، اما البديل فهو (وعي الجماهير + قوة البروليتاريا + ضمير العالم الجماعي !) ، الان وقد بلغت السبعين ، اعترف ان اعتراضي لم يكن في محلة ، فقد اكتشفت مدى سعادة اي شعب من دون حكومة تسومه العذاب ، وبمقدورة التمتع بكامل حريته ، ينام كما يريد ، ويضحك ويبكي ويغني وينوح ويسرق ويقتل على هواه ، حيث لا يوجد من يردعه ، مثلما اكتشفت ان (بوش الابن) شيوعي ، وابن بار للشيوعية ، ولكنه تعجل في تطبيق النظام الشيوعي قبل ان تتوفر له الشروط الموضوعية ، بدليل انه الغى الحكومة والإعلام والجيش والشرطة والأمن ، وقد فاته أننا ما زلنا نعاني من ضعف حاد في وعي الجماهير وقوة البروليتاريا والضمير الجماعي !!.
|