لعل سكان المدن الكبيرة ، وخاصة العاصمة – وانا منهم – يجهلون الكثير من أعراف الفصل العشائري وضوابطه وأصوله ، وطالما منيت النفوس لحضور واحد من تلك الفصول ، لأنها جزء من التقاليد الشعبية والثقافية المجتمعية التي لا يصح ان تغيب عن معلومات الصحفي ، وقد تحققت أمنيتي قبل عامين عندما دعاني صديق لمرافقته مع ممثلي عشيرته (المعتدية) الى المضيف الفلاني كوني من وجهاء الأعلام البارزين على حد تعبيره ، لان كل عشيرة تستدعي اكبر عدد ممكن من السادة والخيرين والوجهاء المناصرين لها ، حيث يؤدي حضورهم الى امتصاص حالات الانفعال المحتملة ، ويخفف من سقف المطالب المبالغ بها أحيانا ، وباختصار كما اوضح لي فان وجودهم يمثل (محضر صلح) بين الطرفين ويحول دون وقوع مالا تحمد عقباه ! ترددت اول الامر ، وقلت له [لاعلاقة لي بالعشيرة المعتدية ، ولا اعرف اصول الحديث في هذه المجالس] ، بحكم الميانة وما يتمتع به صديقي من روح مرح قال لي [أنت منو مصخم وجهك وطالب منك حديث ، راح تكون مثل فحل التوث بالبستان هيبة ، تتفرج وتسمع وتسكت] ، ابتلعت اهانة الميانة ورافقته الى المضيف حيث تجري مراسيم الفصل ! تجنبا للحرج الاجتماعي ، سأستعير اسم قبيلتي (عبس وذبيان) بديلا عن اسم العشيرتين المعاصرتين ، بدأت الجلسة بالصلاة على النبي ، وآل بيته الطاهرين ، ثم تقدم للكلام ممثل قبيلة عبس المعتدى عليها وقال [يا جماعة الخير ، هل يرضيكم ان يقوم (فلان الذبياني) بشتم احد فتيان عبس ويصفه بأنه ، كلب ابن كلب ، من دون مراعاة لوالد الفتى الذي هو زعيم قبيلة عبس ، ونحن إكراما لسادة ذبيان ووجهائها نطالب بمبلغ خمسة ملايين دينار] ! حين انتهى ممثل عبس ، تقدم الناطق الرسمي باسم قبيلة ذبيان المعتدية وقال [يا جماعة الخير ، ان زعيم قبيلة عبس مشهود له بالجود والشجاعة والرجولة والسمعة الطيبة ، وشتيمته لا تعوض بخمسة ملايين ولا خمسين مليونا ، فهو ارفع واكبر من أموال الدنيا كلها] ، ولقي كلامه استحسانا وترحيبا عظيمين من الجميع ، حتى اذا اطمأن إلى انه كسب الجولة الأولى ، عاد إلى الحديث مجددا [يا جماعة الخير .. ربما لا تعرفون ان الكلام نوعان ، فهنالك كلاب الشارع السائبة ، وهذه تعد شتيمة على الشخص اذا قلنا له أنت كلب أو ابن كلب ، وهناك كلاب المنطقة الخضراء ، وهذه تعد مديحا لشخص ودعاء له بالموفقية وتعبيرا عن أعلى درجات الحب ، لان الراتب الشهري لكلب الخضراء هو 14 مليون دينار ، أما راتب الجرو فيبلغ 8 ملايين دينار ، وبعد التحقيق مع ولدنا الذبياني اكتشفنا انه يقصد كلب المنطقة الخضراء ،أي انه يدعو لشيخ عبس وولده بالتوفيق والراتب الضخم ولم يقصد الشتيمة فهل يصح ان تطالبوا الفتى الذبياني بخمسة ملايين دينار ام ان تشكروه] !! أربكت المعلومات التي أدلى بها الناطق باسم ذبيان أذهل الحاضرين وحساباتهم ، وسرت بينهم أحاديث وهمهمات ومشاورات ، قبل ان يرتفع صوت احدهم قائلا [ليتني كنت جروا من جراء الخضراء براتب 8 ملايين دينار] وارتفع صوت آخر وآخر ، وبدوري أخذتني الحماسة وغلبني الطمع فقلت [ليتني كنت كلبا براتب 14 مليونا] وما هي الا بضع دقائق حتى تسابق الحاضرون في أمنياتهم قبل ان ينهض زعيم عبس ويقول بأعلى صوته [ليتني كنت كلبا ابن كلب براتب 28 مليون دينار] ، ونهض الجميع وتصافحوا وتبادلوا القبل وغادروا المضيف وهم في ذروة المصالحة العشائرية وأحلى من السمن على العسل !!
|