هو طالب من مرحلتنا الدراسية في الجامعة المستنصرية ـ قسم اللغة العربية ، ولكنه بأقل الاوصاف التي يستحقها (عبقري زمانه ) ، لم يترك كتابا في الادب والفلسفة والثقافة العامة ، الا وقرأه وحفظ الكثير منه عن ظهر قلب ، وكنا نعجب من قدراته المذهلة ، فلا نكاد نذكر امامه اسم شاعر او مفكر ، من سقوط روما حتى احتلال العراق ، الا وتحدث عنه وعن تأليفه وكتبه المترجمة وغير المترجمة . كان من حقه التباهي وكان من واجبنا الانبهار في حضرة طالب بهذا الذكاء وهذه القدرات الاستثنائية ، وهو من عمرنا واذكر كيف نقلت له ذات يوم اعجابي برواية (الدون الهادئ) ، وقبل ان افرغ من ملاحظاتي ، تسلم مقود الكلام واخبرني ان اجمل ما ورد في الرواية (ضمن نصها الاصلي) ، عبارة جاءت على لسان البطل يقول فيها (العالم كله اباطيل وانا الحقيقة الوحيدة) ، وقد وصف الناقد الروسي المشهور (ليون كوزوموف) هذه العبارة باناه اعظم ما قيل في الادب العربي ، ثم حدثني عن اعظم روايات المؤلف (شولوخوف) ، وعنوانها (القمر والدب القطبي) ، ولكنها م ع الاسف لم تترجم الى العربية !!. ويتربع على عرش الذاكرة من تلك الايام ، استاذ النقد ، الفقيد الراحل ، الدكتور علي جواد الطاهر ، كنا في المرحلة الثانية من العام الدراسي 1968 / 1969 ، وهما هو يدخل قاعتنا لاول مرة ، ويقدم نفسه بتواضع ، ويحاول التعرف علينا بطريقة مبتكرة ، حيث يذكر كل واحد منا اسمه ثم يتحدث عن اهم كتاب قرأه وتأثر به ، فلما وصل الدور الى زميلنا عبقري زمانه ، عرف نفسه ، وراح يتحدث بطلاقه عن الادب السوفيتي ، وتوقف عند (ميخائيل شولوخوف) وروايته التي لم تترجم الى العربية ، وكيف عدها النقاد واحدة من افضل عشر روايات عالمية ، وعرج بعدها الى (الدون الهادئ) والعبارة التي وردت على لسان البطل ، وكيف وصفها الناقد العملاق كوزوموف ، بانها اعظم ما قيل في الادب العالمي !. كان الطاهر مصغيا اليه ، وابتسامة ناعمة تطف على وجهه ، فلما انتهى شكره واثنى عليه .. ثم قال له (انا معجب بقدرتك الهائلة على التعبير عن افكارك، واعجابي اكبر بخيالك الخصب ، لان شولوخوف ليست لديه رواية غير مطبوعة بعنوان (القمر والدب القطبي) ، ولا يوجد ناقد ايمه ليون كوزوموف ولم ترد على لسان البطل مثل تلك العبارة ، وانت كما هو واضح لم تقرأ الدون الهادىء ، ولم تقرأ اي شيء بالمرة) ، ثم قدم لنا شرحا يفي بالغرض وان كان موجزا عن حياة الروائي ، والجوانب الفنية المشرقة في الدون الهادىء ، وطبيعة موضوعها والزمن الذي استغرقه في انجازها ، وموقعها من الرواية العالمية والى اية مدرسة تنتمي ، وانتهى الزمن المقرر للمحاضرة ولم ينته الدكتور من محاضرته ، ووعدنا بمزيد من التفاصيل في وقت اخر ، من غير ان يفوته توجيه النصيحة لنا ، ولزميلنا على وجه الخصوص بلغة ابوية رقيقة ، ان نقرأ الدون الهادئ ، فهي عمل يستحق القراءة .لابد اناه لحظة تاريخية فاصلة بين زمنين ، غادر فيها عبقري زمانه ، او طاووس زمانه ، القاعة وقد تساقط ريشه الملون وذبل عرفه وفقد صوته ، ولم يعد يتحدث الى غير نفسه ، ومنذ تلك اللحظة ، وحتى هذه اللحظة التي تكاثر فيها عباقرة زمانهم الى ان امتلأت بهم اروقة الفضائيات والبرلمان والمعارضة والحكومة ، ولا رادع يردعهم ، ونحن نصرخ نحزن : اين الطاهر ؟!.
|