لا شيء في العراق يلحق اللعنة بصاحبه مثل السياسة، فهي كفيلة بطمس الحقائق حتى لا تكاد تميز بين ما أصبح من حصة الماضي، او بين ما هو من نصيب الحاضر. والسياسة التي اعنيها، هي (تجمعات) تقوم على التعصب الديني او القومي او المذهبي او القبلي، أو على مزاعم تقدمية، وقد تهيأ لهذه التجمعات او بعضها، ان تقود السلطة او توجه سياستها، وبسبب ذلك لحقت اللعنة بالسياسيين من السياسيين أنفسهم، ولم تنج الرموز الوطنية من تلك اللعنة التي عصفت بالجميع! جولة في مدن العراق تكشف كم يفتقر إلى عمائر وساحات وشوارع وقاعات تحمل رموزا سياسية أدت دورا وطنيا مشهودا له، مثلما تكشف غياب العناية المطلق بإرث وتراث تلك الشخصيات وممتلكاتها وحياتها، وان كانت كرسيا أو منضدة أو دار سكن، لقد مضى العهد الملكي الى دار الآخرة، وهو من اكثر العهود الحديثة ازدهارا بالأحداث واعظمها ثراء بالشخصيات الوطنية، فماذا نحفظ من ذاكرته وذكرياته؟ وماذا بقي لنا من عمائم الثوار ودفاتر القادة وسيوفهم وبنادقهم وأماكن اجتماعهم؟ بل ماذا بين ايدينا من التراث الملكي نفسه، عباءة فيصل الاول مثلا ام عرش فيصل الثاني، واين قصر الرحاب او الزهور؟ لان كل ما فعلته السياسة بعد جمهورية 1958 إنها لعنت تاريخ سابقيها، وأحرقت الأخضر واليابس، حتى امتدت حرائقها إلى رموز التألق الوطني، فما عاد لهم اسم ولا ذكر، ولا بقيت منهم تقنيات تتعرف عليها الأجيال اللاحقة، وبفعل سياسة التجمعات التي لا تحسن غير (طمر) رموزها كما تطمر النفايات النووية، تم اجتثاث واحد من اكبر رموز السياسة الوطنية، ممثلا بعبد الكريم قاسم، فأين هي (بقاياه) المتواضعة؟ هل رممنا البيت الذي عاش فيه، أو بنينا له متحفا صغيرا يضم طفولته ومكتبته وصوره وبدلته المضرجة بالدماء وقلمه الذي (وقّع) على قرارات العفو وملابسه المدنية وكرسيه ومنضدته وشهاداته المدرسية والعسكرية؟ ثم لاحظوا معي إن أحدا لم يتعرض بسوء لتمثال الرصافي او ابي نؤاس او الحبوبي أو السياب أو شهريار، لان هذه الأمور تم تصنيفها بالدرجة الأساس على خانة الأدب، وشفيعهم في العناية والبقاء وعدم التهميش، هو إنهم لم يحسبوا على السياسة -مع أن بعضهم سياسيون بامتياز- وإلا لاصابتهم الغفلة كما اصابت الزعيم وجعفر العسكري وكامل الجادرجي ويوسف سلمان وعبد الجبار عبد الله ومحمد صديق شنشل وثوار العشرين، و14 تموز... و... وما اشد خشيتي ان يأتي يوم تتصاعد فيه حمى السياسة والسياسيين، يلفون فيه اسم المنصور والرشيد وبغداد، ويفكرون ببناء عاصمة جديدة وتسمية جديدة!! هكذا إذن جرت الأمور وتجري، حتى إذا مضت على عامنا المبارك هذا ثلاثون أو أربعون سنة، وظهرت (تجمعات) غير التي نعهدها، قامت بتوجيه اللعنة إلى رموزنا السياسية الوطنية المعاصرة، فلا تبقي لهم ذكرا ولا انجازا ولا كلمة طيبة، لان تاريخنا ليس متواصلا ولا مترابطا، انه المرحلة التي نحن فيها الآن، او التي كان عليها اجدادنا بالأمس، او التي سيكون عليها احفادنا في الغد.. نحن باختصار لا نحترم غير تاريخنا (الماثل) الذي يقوده ويرسمه ويحدده ويريده السياسيون الأقوياء، من نبوخذ نصر إلى صدام حسين!!
|