غالبا ما يجري الحديث على ان قلم الصحفي الفلاني يمنح المطبوع (س) بصمته الخاصة، لأنه يحتل مساحة واسعة من اهتمام القراء، وبغض النظر عن صحة هذا الرأي، برغم ما ينطوي عليه من مبالغة، ولكنني على المستوى الشخصي اعتقد ان من يمتلك صناعة البصمة هو رسام الكاريكاتير، لأنه فنان وناقد وساخر، زيادة على كونه كاتبا يعبر عن أفكاره عبر اللوحة، وانا لا اعني بالتأكيد اي قلم صحفي وأي رسام كاريكاتير، بل تلك الأسماء الكبيرة في قدرتها على العطاء الناضج، والإبداع الاستثنائي..خضير الحميري، واحد من أسماء قليلة في هذا الفن المدهش، استطاع أن يحجز له مقعدا في الصف الأول مع كبار النجوم، وميزة هذا الرجل انه جمع من شخصيته الفنية، جملة من المكونات التي يصعب اجتماعها في وقت واحد (موهبة ـ خيال خصب ـ ثقافة عالية) مع عين سحرية قادرة على التقاط الكائنات المجهرية، وتحويلها إلى مخلوقات تثير ما يكفي من الكوميديا السوداء التي تستدر الضحك المر، ولهذا كان موضع الريبة والحذر والرفض من النظام السابق، بقدر ما كان موضع المحبة والتقدير والمتابعة من الناس، ولا أظن أن المعادلة قد تغيرت بعد سقوط النظام! في مجلة «الف باء» تشرفت بالتعرف، وأنجزنا معا عشرات الأعمال الصحفية كنت يومها كثير العناية بكتابة (التحقيقات الاجتماعية)، وكان الحميري وحده من يتولى انجاز الرسوم الخاصة بتلك التحقيقات، ولم يكن الامر هينا بالنسبة لي، فقد عرضني الرجل الى أذى شديد، وحولني من غير قصد الى كاتب هامشي عديم النكهة، وآية ذلك، أنني كلما انتهيت من كتابة تحقيق وبذلت فيه جهدا مضنيا يدفعني إلى الاعتقاد، ان الجماهير ستصفق لي عاليا، جاءت لوحاته بالعجائب التي تدهش المتلقي، وتتحدى أوهامي، وتدفع الجمهور إلى الحديث عن رسومات خضير ومفارقاتها ودلالاتها وانا انتظر ان يذكرني احدهم خيرا او شرا، فلا أجد ذكرا، حتى تولدت عندي قناعة ان أحداً لا يقرأ كتاباتي، فكيف لا انزعج من الحميري، وكيف لا أفكر في الانتقام منه والثأر لنفسي، وهكذا تضافرت عناصر الغيرة والحسد والانتقام وأنا اكتب ذات مرة مادة صحفية مطولة بمناسبة عيد المجلة، وكان الرجل قد تزوج حديثا، فقلت عنه بطريقة تبدو مازحة، ولكنه مزاح لئيم (إن الزميل خضير الحميري منشغل هذه الأيام بغسل أطباق الطعام) في إشارة خبيثة إلى أن مقاليد (الحكم) في البيت أصبحت بيد الزوجة، وشعرت بفرحة غامرة فقد ضربت ضربتي، غير انه لم يتركني اهنأ بفرحتي الوحيدة، فحين هيأ رسوم الموضوع، أظهرني بصورة تجسم عيوبي الخلقية، وذراعي مكسورة ومربوطة إلى عنقي وانا أهرول هاربا وهو يركض ورائي وبيده ثوثية، وتحت الرسم تعليق صغير (حسن العاني .. اني اغسل مواعين) وهكذا انتصر من جديد، وجعلني أضحوكة عيد المجلة، ولكن المشكلة أن في أعماقه إنسانا يعادل طيبة الكون، لعلها هي التي دفعتني الى القول, وما زلت أقول: ليس من ما لا يحب خضير الحميري !!
|