للمرة الأولى في تاريخ محلتنا ، لا نخاف من رجل يعمل في دائرة الأمن ونحن نعرف مكان عمله ، والأغرب من ذلك ان شباب محلتنا الشعبية ، وفيهم اليساريون و القوميون والإسلاميون والمرتبطون بأحزاب سياسية ، يحبون هذا الرجل ويحترمونه ، مع انه يؤدي واجبه كأي واحد من منتسبي الأمن !!. انه على وجه التحديد ( المفوض خليل ) الذي حصل على وظيفة ( شرطي أمن ) بداية عام 1958 وتقاعد في نهاية عام 2006 وبذلك فقد عاصر حكومات نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف والبكر وصدام حسين وحكومات ما بعد الاحتلال !. ولعل ميزة المفوض خليل من غيره من رجال الأمن الآخرين انه صاحب فلسفة خاصة في عمله الأمني ، فهو لا يتلصص على الناس ولا يخفي هويته أو يتقمص شخصية بعيدة عن شخصيته الحقيقية ، بل كان واضحا كل الوضوح ، مثلما كان على قدر عظيم من الشفافية قبل ظهور الشفافية في العراق بعد عام 2003 !. على ان الجانب الأهم في فلسفة خليل يكمن في موقعة الغريب ، فمنذ التحاقه بالعمل شرطيا في محيط محلتنا ، أو حتى تدرجه بالوظيفة الى درجة مفوض، والى يوم تقاعده ، كان يجري لقاءات فردية مع وجهاء ، المحلة وشبابها وسياسييها ويقول لهم بالعربي الفصيح والمختصر المفيد ( يا جماعة ... أنا رجل امن ، والحكومة تعطيني راتبا شهريا لكي اكتب تقارير عن كل شخص أو أي مخلوق كائنا من يكون ، إذا تعرض لها بسوء أو شتمها أو سخر منها ، هذه هي وظيفتي التي أتقاضى راتبا عنها ، ولا أريد التقصير في واجبي فهذا حرام ، ولذلك فلا فرق عندي بين حكومة السعيد أو قاسم أو عارف أو صدام ومن هنا أرجوكم وأتوسل إليكم ان لا تنطقوا بحرف واحد أمامي يسيء الى الحكومة أو يتعرض لأشخاصها أو سياستها لأنني غير قادر على خيانة ضميري ، وسأرفع به تقريرا الى مراجعي العليا في الدائرة اذكر فيه كل كلمة صدرت عنه من غير زيادة أو نقصان!!]، وبل ذهب الأمر به الى ابعد من هذا فقد حذر زوجته وأبناءه وأقاربه من مغبة التحرش بالحكومة لأنه سيتولى الإبلاغ عنهم، وهو غير مسؤول عما يتعرضون له، وكان يردد على الدوام القول المأثور (وقد اعذر من انذر) وقد أثبتت الأيام ان الرجل المخلص لوظيفته الحكومية كان مستقلا فهو لم يكن بعثيا ولا شيوعيا ولا إسلاميا ولا قوميا على الرغم من تعاونه الجاد مع الأنظمة جميعها، السياسية والحزبية. لم تتغير فلسفته بعد 2003 وظل وفيا لها ولكنه بدأ يميل الى العزلة وطغى عليه طابع الحزن حتى خشينا عليه من مرض الكآبة فأحطناه برعايتنا ولكي نشغله بالعمل وكتابة مزيد من التقارير رحنا نتعرض للحكومة أمامه بأعلى أصواتنا، ونتفقد مواقفها وبرامجها وتخبطها السياسي انتقادا عنيفا، إلا ان ذلك يخفف من حزنه بل أجهش ذات مرة بالبكاء وهو يقول لنا [شنو الفايدة من الكتابة إذا الحكومة لا تقرة ولا تكتب]، ثم رفع رأسه وعيناه تذرفان دمعا سخيا . وخاطبنا متسائلا [هي وين الحكومة؟] عندها فقط أدركنا الحقيقة التي غابت عنا من رجل امن !!.
|