غنائم ومغانم كثيرة حصدها الأستاذ الكبير (يوسف غنيمة) بتبوئه أرفع المناصب الوزارية والقيادية والأدبية والاجتماعية في العراق. كانت عفته ونزاهته من أكبر خصاله وأفضل مزاياه، وربما كانت نزاهته هي العلامة الفارقة في سيرته الذاتية المؤطرة بمواقفه الوطنية المخلصة، فغنيمة النزاهة لا تقدر بثمن. اسمه الكامل: يوسف بن رزق الله بن الشهبندر يوسف بن الشماس سمعان بطرس، من عائلة كلدانية عراقية صحيحة النسب. ولد ببغداد في التاسع من الشهر الثامن من عام 1885. درس في مدرسة (الأليانس)، وتعلم اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية. كان يجيد العربية والكلدانية ويمتلك مجموعة من المواهب والمؤهلات. عمل في التجارة واشتغل في الصحافة ومارس العمل السياسي. تولى مناصب مهمة عدة، منها مديراً عاماً للآثار خلفا للعالم الكبير ساطع الحصري للفترة من 1941 إلى 1944، ومديراً للتموين العام، فنال ثقة الناس وإعجابهم لما يحمله من عفة ونزاهة وصدق واستقامة. كان من بناة العراق الحديث، ومن أقوى المدافعين عن حقوق العمال والفلاحين، فطالب بتحديد ساعات عملهم وزيادة أجورهم، وعمل على تسليف المزارعين بقروض وأموال أسهمت في زيادة الغلة الزراعية، وكان أول من نبه أجهزة الدولة إلى ضرورة إصدار تشريع خاص بالعمال. كان يرى أن بقاء البلاد بدون قانون يضمن حقوقهم يعد نقصاً كبيرا في التشريع العراقي. وهو أول من فكر بتأسيس صندوق الضمان الاجتماعي للعمال والفلاحين، وأول من حث الدولة إلى ضرورة الاعتماد عليهم في النهضة العمرانية والإنتاجية والتطويرية، وأول من فكر بضرورة توفير ضمان خاص بالشيخوخة، وحجته في ذلك (أن المواطن يقضي زهرة شبابه ويفني أيام كهولته في خدمة المجتمع، بمهنة يعالجها وصنعة يزاولها من فلاحة أو حياكة أو بناء أو نجارة أو حدادة أو غيرها من الصناعات، ويحق له في أيام شيخوخته أن يقوم المجتمع بإعالته وتهتم حكومة البلاد به، ولا تتركه يعاني الأمرين بين أنياب العوز والفقر المدقع). أصدر مع الصحفي داود صليوا جريدة (صدى بابل) سنة 1909، وأنشأ مدرسة وجمعية للطائفة الكلدانية، وعاون المسز (فوربس) على إنشاء مكتبة السلام البغدادية، وقام برحلات إلى أطراف العراق وإيران، وألقى محاضرات في دار المعلمين عن تاريخ العراق القديم، وأصدر جريدة (السياسة) عام 1925، وانتخب في العام نفسه نائبا عن بغداد. رشحته عفته ونزاهته لتولى وزارة المالية ثلاث مرات. وكان من مؤسسي حزب (الإخاء الوطني) سنة 1931 مع ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان وعلي جودت الأيوبي. شغل منصب وزير المالية ست مرات، كانت المرة الأولى في حكومة عبد المحسن السعدون الثالثة في كانون الثاني 1929، ثم في وزارة توفيق السويدي الأولى عام 1929، وعين وزيرا للمرة الثالثة في وزارة علي جودت الأيوبي عام 1934، والرابعة في وزارة جميل المدفعي عام 1935، والخامسة عام 1946، والسادسة في عام 1948. أصبح مديرا عاما للمصرف الزراعي الصناعي الذي تأسس في عام 1936، وفي أواخر الحرب العالمية الثانية استحدثت وزارة للتموين في العراق، وكان أول وزير للتموين عند استحداثها، كما أصبح عضوا في مجلس الأعيان عام 1945. من أشهر مؤلفاته: (رسالة برديصان والبرديصانية، طبع عام 1920/ تجارة العراق قديما وحديثا، طبع سنة 1922/ تأريخ مدن العراق، طبع سنة 1923/ نزهة المشتاق في تأريخ يهود العراق، طبع سنة 1924/ غادة بابل (رواية) 1929/ حقوق الفلاح والعامل (دراسة) 1930). انتقل إلى رحمة الله في لندن عام 1950 وحملت جنازته إلى بغداد. لكنه ظل رمزاً شامخاً من رموز النهضة الوطنية العراقية، ومصلحاً ومجدداً، وأديباً واعياً، ومثقفاً منفتحاً متعدد المواهب، سخر علمه وثقافته في خدمة الشعب العراقي. أحبه الناس لعفته ونزاهته ونبله وكرمه، فكانت أخلاقه الرفيعة، ومواقفه الوطنية، وإصلاحاته الإنسانية الكبيرة، هي غنيمته التي حملها معه في الدنيا والآخرة.
|